(ص) : (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ سُئِلَا أَتَغْلُظُ الدِّيَةُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَقَالَا لَا، وَلَكِنْ يُزَادُ فِيهَا لِلْحُرْمَةِ فَقِيلَ لِسَعِيدٍ هَلْ يُزَادُ فِي الْجِرَاحِ كَمَا يُزَادُ فِي النَّفْسِ فَقَالَ نَعَمْ قَالَ مَالِكٌ أُرَاهُمَا أَرَادَا مِثْلَ الَّذِي صَنَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عَقْلِ الْمُدْلِجِيِّ حِينَ أَصَابَ ابْنَهُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأُولَى فَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ فِي نَفْيِ التَّغْلِيظِ فَرَوَاهَا ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَاهَا ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ، وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إنَّ هَذِهِ دِيَةٌ فَجَازَ أَنْ يَلْحَقَهَا التَّغْلِيظُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ كَدِيَةِ الْإِبِلِ، وَإِذَا لَمْ يُغَلَّظْ الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ لَمْ يَلْحَقْهُ تَغْلِيظٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرْ التَّغْلِيظُ فِي صِفَتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ فِيهَا إلَّا الْجَيِّدُ الْخَالِصُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا إنَّهَا تَغْلُظُ فَكَيْفَ صِفَةُ التَّغْلِيظِ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ، وَابْنُ عَبْدُوسٍ عَنْ مَالِكٍ يَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ الدِّيَةِ الْمُخَمَّسَةِ مِنْ الْإِبِلِ، وَإِلَى دِيَةِ الْمُغَلَّظَةِ مِنْهَا فَيُنْظَرُ إلَى مَا تَزِيدُ الدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ مِنْ الْإِبِلِ عَلَى دِيَةِ الْخَطَإِ فَيُزَادُ تِلْكَ الْقَدْرُ عَلَى دِيَةِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ.
وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ وَيُنْظَرُ كَمْ قِيمَةُ الدِّيَةِ الْمُغَلَّظِ مِنْ الْإِبِلِ فَتَكُونُ تِلْكَ الدِّيَةَ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ فِي هَذَا الْقَوْلِ مَا لَمْ يَنْقُصْ عَنْ أَلْفِ دِينَارٍ فَلَا يَنْقُصُ، وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ أَصْلَ تَغْلِيظِ الدِّيَةِ مُعْتَبَرُ الصِّفَةِ، وَذَلِكَ مُتَعَذَّرٌ فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ فَاعْتُبِرَ بِتَغَيُّرِ صِفَاتِ الْإِبِلِ فَيَزِيدُ فِي عَدَدِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ قَدْرُ مَا بَيْنَ قِيمَتَيْ الصِّفَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهَا حُكْمُ التَّغْلِيظِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ فِيهِ أَسْنَانٌ لِلتَّغْلِيظِ أَقَلَّ مِنْ دِيَةِ الذَّهَبِ فَلَا يَلْحَقُهَا تَغْلِيظٌ، وَرُبَّمَا قَصُرَتْ عَنْ ذَلِكَ فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ بِهَا، وَأَدَّى ذَلِكَ إلَى نَقْصِ الدِّيَةِ بِالتَّغْلِيظِ عَمَّنْ كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّغْلِيظِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا دِيَةُ الْعَمْدِ فَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّهَا أَرْبَاعُ إنَاثٍ كُلُّهَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ أَنَّهَا فِي أَسْنَانِهَا كَدِيَةِ الْخَطَإِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ قَتْلٌ سَقَطَ إلَى دِيَةٍ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُغَلَّظَةً كَدِيَةِ قَتْلِ الْأَبِ ابْنَهُ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْوَاجِبَ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ إنَّمَا هُوَ الْقِصَاصُ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى إسْقَاطِهِ بِشَيْءٍ مَا لَزِمَهُمَا ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى شَيْءٍ، وَأَيُّهُمَا لَفْظُ الدِّيَةِ وَجَبَ أَنْ تُلْزَمَ فِي ذَلِكَ الدِّيَةُ الْمَعْرُوفَةُ، وَهِيَ دِيَةُ الْخَطَإِ فَإِذَا قُلْنَا إنَّهَا تُغَلَّظُ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ فَهَلْ تُغَلَّظُ أَيْضًا عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ وَالذَّهَبِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ مَا يُعْلَمُ مَنْ يُغَلِّظُهَا عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ غَيْرَ أَشْهَبَ، وَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَخِي الْمَقْتُولِ خُذْهَا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَيْسَ لِلْقَاتِلِ شَيْءٌ» يُرِيدُ أَنَّهُ سَلَّمَ جَمِيعَ الدِّيَةِ إلَى أَخِي الْمَقْتُولِ، وَأَنَّهُ كَانَ الْمُحِيطُ بِمِيرَاثِهِ دُونَ أَبِيهِ لِكَوْنِ أَبِيهِ قَاتِلًا لِلْمَوْرُوثِ، وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَيْسَ لِلْقَاتِلِ شَيْءٌ» ، وَهَذَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ دِيَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَة وَالْمَوَّازِيَّةِ لَا يَرِثُ مِنْ مَالِ الِابْنِ وَلَا دِيَتِهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ أَشْهَبُ أَنَّهُ كَالْعَمْدِ، وَإِنَّمَا دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ.
(ش) : قَوْلُ سَعِيدٍ وَسُلَيْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا تَغْلُظُ الدِّيَةُ لِلشَّهْرِ الْحَرَامِ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَلَا تَغْلُظُ لِلْحُرُمِ، وَلَا لِذَوِي الْحُرُمِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تَغْلُظُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ قَوْله تَعَالَى {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] ، وَإِطْلَاقُ لَفْظِ الدِّيَةِ يَقْتَضِي الدِّيَةَ الْمُقَدَّرَةَ دُونَ غَيْرِهَا، وَيَجِبُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى عُمُومِهَا إلَّا مَا خَصَّهُ مِنْ دَلِيلٍ، وَمِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّ الدِّيَةَ مَعْنًى تَجِبُ بِالْقَتْلِ فَلَمْ تَتَغَلَّظْ بِالْحُرُمِ، وَلَا بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ كَالْكَفَّارَةِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالدِّيَةُ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّينَ فَإِذَا لَمْ يَتَغَلَّظْ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحُرُمِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ فَبِأَنْ لَا تَتَغَلَّظَ بِهِ الدِّيَةُ، وَهُوَ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّينَ أَوْلَى وَأَحْرَى.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُمَا، وَلَكِنْ يُزَادُ فِيهَا لِلْحُرْمَةِ عَلَى مَا فَسَّرَهُ مَالِكٌ أَنَّهَا تَغْلُظُ لِمَا سَقَطَ مِنْ الْقَتْلِ لِحُرْمَةِ