وَسعي عَلَيْنَا مِنْ كُلِّ حَارٍّ وَبَارِدٍ فِي صِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَدَارَتْ عَلَيْنَا الْخَمْرُ فَاسْتَعْفَيْتُ مِنْهَا، ثُمَّ أُتِيَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَبْرِيقٍ مِنْ ذَهَبٍ. ثُمَّ أَوْمَأَ إِلَى وَصِيفٍ لَهُ فَمَا كَانَ إِلا هُنَيْهَةً حَتَّى أَقْبَلَتْ عَشْرُ جَوَارٍ، فَقَعَدَ خَمْسٌ عَنْ يَمِينِهِ وَخَمْسٌ عن يساره/ على 104/ ب كَرَاسِيِّ الْعَاجِ، وَإِذَا عَشْرٌ أُخَرُ أَحْسَنُ مِنَ الأُوَّلِ، فَقَعَدَ خَمْسٌ عَنْ يَمِينِهِ وَخَمْسٌ عَنْ يَسَارِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ جَارِيَةٌ [مِنْ أَحْسَن مَا تَكُونُ مِنَ الْجَوَارِي] بِطَائِرٍ أَبْيَضَ، وَفِي يَدِهَا الْيُمْنَى جَامٌ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ مِسْكٌ وَعَنْبَرٌ سَحِيقَانِ، وَفِي يَدِهَا الْيُسْرَى جَامٌ مِنْ فِضَّةٍ فِيهِ [مَاءُ وَرْدٍ] مَا لَمْ أَشُمَّ مِثْلَهُ، فَنَقَرَتِ الطَّائِرَ فَوَقَعَ فِي الْجَامِ فَتَقَلَّبَ فِيهِ ثُمَّ فِي الْجَامِ الآخَرِ فَتَقَلَّبَ فِيهِ، ثُمَّ سَقَطَ عَلَى صَلِيبٍ فِي تَاجِ جَبَلَةَ، ثُمَّ حَرَّكَ جَنَاحَيْهِ فَنَثَرَ ذَلِكَ عَلَى رَأْسِ جَبَلَةَ وَلِحْيَتِهِ، ثُمَّ شَرِبَ جَبَلَةُ خَمْرًا ثُمَّ اسْتَهَلَّ وَاسْتَبْشَرَ، ثُمَّ قَالَ لِلْجَوَارِي: أَطْرِبْنَنِي، فَخَفَقْنَ بِعِيدَانِهِنَّ، فَانْدَفَعْنَ يُغَنِّينَ:
للَّه دَرُّ عِصَابَةٍ نَادَمْتُهُمْ ... يَوْمًا بِجِلقٍ فِي الزَّمَانِ الأَوَّلِ
أَوْلادُ جَفْنَةَ عِنْدَ قَبْرِ أَبِيهِمْ ... قَبْرِ ابْنِ مَارِيَةَ الْكَرِيمِ الْمُفَضَّلِ
بِيضُ الْوُجُوهِ كَرِيمَةٌ أَحْسَابُهُمْ ... شَمُّ الأُنُوفِ مِنَ الطِّرَازِ الأَوَّلِ
يُغْشَوْنَ حَتَّى مَا تَهِرُّ كِلابُهُمْ ... لا يَسْأَلُونَ عَنِ السَّوَادِ الْمُقْبِلِ
فَطَرِبَ، ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَعْرِفُ لِمَنْ هَذَا الشِّعْرُ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: قَالَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: هُوَ حَيٌّ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، أَمَا إِنَّهُ ضَرِيرٌ كَبِيرٌ.
ثُمَّ قَالَ: أَطْرِبْنَنِي، فَغَنَّيْنَ:
لِمَنِ الدَّارُ أقفرت بمغان ... بين قرع اليرموك والضّمان [1]
ذَاكَ مُغْنٍ لآلِ جَفْنَة فِي الدَّهْرِ ... مَحَاهُ تَعَاقُبُ الأَزْمَانِ
فقَالَ: أَتَعْرِفُ قَائِلَ هَذَا، ذَاكَ حَسَّانُ. ثُمَّ سَكَتَ طَوِيلا ثُمَّ قَالَ: ابْكينَنِي. فَوَضَعْنَ عِيدَانَهُنَّ وَنَكَّسْنَ رُءُوسَهُنَّ وَقُلْنَ:
تَنَصَّرَتِ الأَشْرَافُ مِنْ عَارِ لَطْمَةٍ ... وَمَا كَانَ فِيهَا لَوْ صَبَرَتْ عَلَى ضَرَرْ
تَكَنَّفَنِي فِيهَا لجَاجٌ وَنَخْوَةٌ ... [وبعت بها العين الصحيحة بالعور] [2]