وانعكف مع ندمائه على لذّاته وزاد في تحجّبه، وألقى مقاليد أمور المملكة إلى أصحابه. وأشيع عنه أنّه يخلو بغلمانه وحظايا أبيه، فجاءهم ما لا عهد لهم به ولا عرفوه من سيرة أبيه. فنفرت قلوبهم منه وتواعدوا على الفتك به.
فلمّا مدّ السماط يوم الاثنين تاسع عشرين المحرّم وجلس على عادته، تقدّم إليه بيبرس البندقداري، من البحريّة، وضربه بالسيف [ف] أطار أصابع يده. ففرّ إلى البرج الخشب وهو يصيح: من جرحني؟ - فقيل: بعض الحشيشيّة.
فقال: لا والله، إلّا البحريّة، لا أبقيت منهم بقيّة! .
واستدعى المزيّن ليداوي جرحه، فاقتحم البحريّة البرج بسيوفهم ففرّ إلى أعلاه وأغلق بابه، والدم يسيل من يده. فأضرموا عليه نارا ورموه بالنّشّاب، فألقى نفسه من البرج، وتعلّق بأذيال الفارس أرقطاي فلم يجره، فمرّ يعدو إلى البحر وهو يقول: ما أريد ملكا، دعوني أرجع إلى الحصن! يا مسلمين، ما فيكم من يصطنعني ويجيرني؟ .
هذا وجميع العسكر قد وقفوا ينظرونه فلم يجبه أحد، والنّشّاب يأتيه من كلّ جهة وهو يسبح في الماء، وهم في طلبه حتى قطعوه قطعا بسيوفهم فمات غريقا حريقا جريحا قتيلا. وفرّ أصحابه، وبقي على شاطئ النيل ثلاثة أيّام منتفخا حتى شفع فيه [343 ب] رسول الخليفة فحمل ودفن.
وكانت مدّته سبعين يوما.
وكان الذي تولّى قتله أربعة من مماليك أبيه البحريّة، وهم الذين قتلوا العادل الصغير. وذلك أنّ الصالح استدعى الطواشي محسن الصالحيّ وأمره أن يذهب إلى أخيه العادل ومعه طائفة من المماليك حتى يخنقوه في محبسه، فعرض جماعة من المماليك ليذهب بهم لذلك فلم يوافقوه، إلّا أربعة منهم، فإنّهم ساروا معه وخنقوا العادل.
فقدّر الله أن يجعل منيّة ابنه المعظّم على أيدي هذه الأربعة، فكان في ذلك عبرة لمن يعتبر.
ورؤى الملك الصالح في النوم بعد قتل المعظّم، وهو يقول [الرمل]:
قتلوه شرّ قتلة ... صار للعالم مثلة
لم يراعوا فيه إلّا ... لا ولا من كان قبله
ستراهم عن قريب ... لأقلّ الناس أكلة (?)
فكان كذلك وقتل أعيان الأمراء في الوقعة التي كانت بين المعزّ أيبك والناصر يوسف، كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب (?).
وانقرضت بقتل المعظّم دولة بني أيّوب من مصر، وفنيت رجالها بتحكّم المماليك الأتراك البحريّة، فكانت مدّة بني أيّوب إحدى وثمانين سنة وعدّة رجالهم ثمانية، ولله الأمر من قبل ومن بعد (?).