وبعث إليه ليدخل في الطاعة وبذل له الأمان فامتنع. وأقام العسكر ثلاثة أيّام، وأوهموه أنّهم قد أرسلوا في طلب المراكب والحراريق. فانهزم عنالجزيرة إلى جهة الأبواب وليست في مملكته.
فتركه من كان معه من السّواكرة (?) - وهم الأمراء- وفارقه الأسقف والقسوس ومعهم الصليب الفضّة الذي يحمل على رأس الملك وتاج المملكة، وطلبوا الأمان. فأمّنهم أيدمر وخلع على أكابرهم، وعادوا إلى دمقلة في جمع كبير.
فعدّى الأمير عزّ الدين الأفرم وقبجق إلى البرّ الشرقيّ وتركا العسكر في مكانه وصارا إلى دمقلة.
ولبس العسكر آلة الحرب وطلّبوا من الجانبين ورتّبت الحراريق في البحر ولعبت بالنفط. ومدّ الأفرم الخوان (?) في كنيسة أسوس التي هي أكبر كنائس دمقلة، ثم ملك الرجل الواصل من القاهرة ووضع تاج المملكة على رأسه. وحلف على الطاعة للملك المنصور وحلفت أكابر النوبة، وتقرّر البقط (?) على عادته. وأقيم بدمقلة مع ملكها من جهة السلطان رجل من أصحاب أيدمر والي قوص يقال له ركن الدين بيبرس العزّيّ.
وعاد الأفرم بجميع العساكر إلى أسوان بعد أن كانت مدّة الغيبة عنها ستة أشهر [244 أ]. وسار إلى القاهرة فوصل في أوّل جمادى الأولى سنة تسع وثمانين.
ولم يزل إلى أن قبض عليه الأشرف في يوم السبت ثاني شوّال سنة اثنتين وتسعين، وأحيط بسائر أمواله، وحمل منها إلى بيت المال مبلغ مائة
ألف وستّين ألف دينار مصريّة، ومن الغلّات ستّة وتسعون ألف إردبّ.
فأقام في الاعتقال إلى أن قتل الأشرف وقام الأمير كتبغا النائب بتدبير سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون، [ف] أفرج عنه في سلخ صفر سنة ثلاث وتسعين. ثم لمّا تسلطن جعله أمير جاندار في يوم الخميس ثاني عشر المحرّم سنة أربع وتسعين.
فلم يزل على ذلك إلى أن مات بداره من مدينة مصر في يوم الأربعاء سادس عشرين صفر سنة خمس وتسعين وستّمائة. ودفن برباطه المطلّ على بركة الحبش. وكانت جنازته حافلة إلى الغاية.
وكان كثير الخير والإحسان. وعمّر كثيرا من المدارس والمساجد بإسنا وبقوص وبمدينة مصر.
وله بالرّصد إلى الآن رباط يشرف على بركة الحبش (?).
وكانت دنياه [230 ب] واسعة مقبلة، وهو من وسائط الخير وأهل المعروف وأرباب المروءات ومن أهل الدين. وكانت أمواله من الزراعة فإنّه كان يتتبّع أراضي الحرس (?) فيشتريها أو يستأجرها ثم يعمّرها، وكان مع هذا محظوظا فيها فصار بيده عدّة بلاد، وكلّ بلد يأخذها لا بدّ له من [أن] يعمل فيها أثرا: إمّا يبني مسجدا أو جامعا أو منارا يؤذّن عليه. وكان إذا سمع بمسجد خراب عمّره. فبنى نحو ثلاثمائة مئذنة.