المقفي الكبير (صفحة 1770)

مقدّمة المقريزي لكتاب الدرر (?)

وبعد، فإنّي ما ناهزت من سني عمري الخمسين، حتّى فقدت معظم الأصحاب والأقربين، فاشتدّ حزني لفقدهم، وتنغّص عيشي من بعدهم، فعزّيت النفس عن لقائهم بتذكارهم، وعوّضتها عن مشاهدتهم باستماع أخبارهم، وأمليت ما حضرني من أنبائهم في هذا الكتاب، وسمّيته:

درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة

والله أسأل أن يبرّد في مقرّ البلى مضجعهم، ويقرّ ليوم التنادي مهجعهم، ويجمعني وهم بدار كرامته في نعمته، ويمنعني وإيّاهم بالخلود مع الأبرار في جنّته، بمنّه وكرمه.

وفي ذلك أقول [الطويل]:

فقدت لعمري ما كان لي يحلو ... وأوحشني قوم بهم كان لي شغل

فلا غائب في الناس أرجو قدومه ... ولا زائر، همّي بزورته يجلو

ولا صاحب أرجو لدفع كريهة ... إذا محن الأيّام ما خطبها سهل

ولا مسعف بالرأي لي هو مرشد ... ولا منجد بالجاه قدري به يعلو [2 أ]

ولا فارج عنّي الهموم بإنسه ... يطارحني همّا يخفّ به الثكل

ولم يبق لي من صبوة وصبابة ... تلذّ بها نفسي ويجتمع الشمل

وقد أعرضت نفسي عن اللهو جملة ... وملّت لقاء الناس حتّى وإن جلّوا

وصار بحمد الله شغلي وشاغلي ... فوائد علم لست من شغلها أخلو

فطورا يراعي كاتب لفوائد ... بصحّتها قد جاءنا العقل والنقل

واونة للعلم صدري جامع ... فتزكو به نفسي وعن همّها تسلو

ثم إنّي رأيت بعد ذلك أن أجمع أخبار من أدركته، سواء غاب عنّي أو رأيته، من أهل مصر (1*) كان أو غيرها من البلدان، فأقيّد أخبار الملوك والأمراء، وأعيان الكتّاب والوزراء، وأذكر رواة الحديث والفقهاء، وحملة سائر العلوم والشعراء، ومن له ذكر شهير، أو قدر نبيه خطير، إمّا من رجال الدنيا أو طلّاب الأخرى، من ابتداء سنة ستّين وسبعمائة، وأورد في اسم كلّ ملك أوّليّة دولته، ومن سلف من ملوك مملكته، كي يحيط الناظر فيه علما بدول الزمان، وملوك العصر والأوان، «فكأن قد» وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب: 62] وحسبي الله، وكفى به وكيلا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015