القدوس
هُوَ المنزه عَن كل وصف يُدْرِكهُ حس أَو يتصوره خيال أَو يسْبق إِلَيْهِ وهم أَو يختلج بِهِ ضمير أَو يقْضِي بِهِ تفكير وَلست أَقُول منزه عَن الْعُيُوب والنقائص فَإِن ذكر ذَلِك يكَاد يقرب من ترك الْأَدَب فَلَيْسَ من الْأَدَب أَن يَقُول الْقَائِل ملك الْبَلَد لَيْسَ بحائك ولاحجام فَإِن نفي الْوُجُود يكَاد يُوهم إِمْكَان الْوُجُود وَفِي ذَلِك الْإِيهَام نقص
بل أَقُول القدوس هُوَ المنزه عَن كل وصف من أَوْصَاف الْكَمَال الَّذِي يَظُنّهُ أَكثر الْخلق كمالا فِي حَقه لِأَن الْخلق أَولا نظرُوا إِلَى أنفسهم وَعرفُوا صفاتهم وأدركوا انقسامها إِلَى مَا هُوَ كَمَال وَلكنه فِي حَقهم مثل علمهمْ وقدرتهم وسمعهم وبصرهم وَكَلَامهم وإرادتهم واختيارهم وَوَضَعُوا هَذِه الْأَلْفَاظ بِإِزَاءِ هَذِه الْمعَانِي وَقَالُوا إِن هَذِه هِيَ أَسمَاء الْكَمَال وَإِلَى مَا هُوَ نقص فِي حَقهم مثل جهلهم وعجزهم وعماهم وصممهم وخرسهم فوضعوا بِإِزَاءِ هَذِه الْمعَانِي هَذِه الْأَلْفَاظ
ثمَّ كَانَ غايتهم فِي الثَّنَاء على الله تَعَالَى وَوَصفه أَن وصفوه بِمَا هُوَ أَوْصَاف كمالهم من علم وقدرة وَسمع وبصر وَكَلَام وَأَن نفوا عَنهُ مَا هُوَ أَوْصَاف نقصهم وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منزه عَن أَوْصَاف كمالهم كَمَا أَنه منزه عَن أَوْصَاف نقصهم بل كل صفة تتَصَوَّر لِلْخلقِ فَهُوَ منزه ومقدس عَنْهَا وَعَما يشبهها ويماثلها وَلَوْلَا وُرُود الرُّخْصَة وَالْإِذْن بإطلاقها لم يجز إِطْلَاق أَكْثَرهَا وَقد فهمت معنى هَذَا فِي الْفَصْل الرَّابِع من فُصُول الْمُقدمَات فَلَا حَاجَة إِلَى الْإِعَادَة تَنْبِيه
قدس العَبْد فِي أَن ينزه إِرَادَته وَعلمه أما علمه فينزهه عَن المتخيلات والمحسوسات والموهومات وكل مَا يُشَارِكهُ فِيهِ الْبَهَائِم من الإدراكات بل يكون تردد نظره وتطواف علمه حول الْأُمُور الأزلية الإلهية المنزهة عَن أَن تقرب فتدرك بالحس أَو تبعد فتغيب عَن الْحس بل يصير متجردا فِي نَفسه عَن المحسوسات