مالك والمعلوم من مذهبه ومذهب أصحابه في مسائله ومسائلهم؛ لأنهم لم يخيروا المسافر بين القصر والإتمام، ولا أوجبوا عليه الإعادة أبدا إذا أتم، وإنما رأوها عليه في الوقت استحبابا ليدرك فضيلة السنة، إلا أن يكون صلاها في جماعة فلا يعيد لإحرازه فضل الجماعة، وإن كانت فضيلة السنة عنده آكد من فضيلة الجماعة؛ لأنه لم ير له أن يصلي في جماعة ويترك القصر إلى أن تغشاه الصلاة في موضعه الذي هو فيه من مسجد أو غيره؛ لما في ذلك من الجفاء وتعريض نفسه إلى سوء الظن. وقد ذهب ابن حبيب إلى أنه يعيد في الوقت وإن صلى في جماعة ما لم تكن صلاته في الجماعة في المسجد الجامع، وذلك على حسب تأكيد فضيلة السنة عنده. ومن ذهب إلى هذا ولم يصح عنده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر الصلاة في سفره مع الأمن رأى المسافر مخيرا بين القصر والإتمام بالقرآن. ويحتمل أن يكون هذا، أعني التخيير بين القصر والإتمام، مذهب من صح عنده قصر النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الصلاة في السفر مع الأمن إذا تأول القصر الذي رفع الله فيه الجناح عن عباده أنه هو القصر من أربع ركعات إلى ركعتين مع الخوف، ويرى أن قصر النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مع الأمن إنما هو زيادة بيان لما في القرآن لا سنة مسنونة. ومن ذهب إلى هذا ورأى أن القصر أفضل، استدل على ذلك بما روي أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى شدائده، ولقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته». ومن ذهب إلى هذا ورأى الإتمام أفضل رآه زيادة عمل وقاسه على الصيام في السفر. ومن استوت عنده في ذلك الأدلة لم يفضل أحد الأمرين على صاحبه.
وقد اختلف في حد ما تقصر فيه الصلاة من السفر اختلافا كثيرا من مسافة ثلاثة أميال، وهو مذهب أهل الظاهر، إلى مسيرة ثلاثة أيام، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. والذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الصلاة لا تقصر في أقل من مسيرة اليوم التام. واختلف في حده فقيل: ثمانية وأربعون ميلا، وقيل: خمسة وأربعون