لنزول القرآن مفرّقا من الأثر في أعظم غرس غرسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أصحابه الّذين لم يوجد التّاريخ لهم نظيرا بعدهم، رضي الله عنهم.
زد على ذلك ما في التّدرّج في النّزول من تيسير أخذ القرآن حفظا وفهما كما لا يخفى.
قال تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النّساء: 82]، فكتاب توحى مقاطعه وأجزاؤه في ثلاث وعشرين سنة لا ترى شيئا من آخره ينقض شيئا من أوّله ولا يخالفه، بل يؤكّده ويصدّقه، لهو من أعظم البراهين على أنّه من عند حكيم خبير، ما هو بقول شاعر يتيه به عقله في كلّ واد، ولا كاهن تغرّه الشّياطين بالأكاذيب، بل ولا بقول عاقل أديب قد جرى لسانه بالحكمة والبيان، فإنّ أعقل العقلاء ليدلّه عقله اليوم على خطئه بالأمس أو قصوره، ومن النّاس من يصنّف في علم أو فنّ يكون فيه
رأس صناعته وربّما مكث فيه عقودا من الزّمن وهو يصلح ويزيد وينقّح، لا يخرج للنّاس منه حرفا في تلك السّنين الطّوال، ثمّ يخرج تصنيفه للنّاس حجّة لهم في ذلك الفنّ، فكم ترى له من متعقّب، ومستدرك عليه ومصوّب! وهذا القرآن ينزل في بضع وعشرين سنة تنزل سورة أو بعض آيات، بل آية أو بعض آية، يصبّح النّاس ويمسّون بجديده، لم يأت منه حرف بخلاف حرف ولا كلمة بخلاف كلمة، ولا معنى بخلاف معنى، يتلوه على النّاس نبيّ أمّيّ ما قرأ قبله وما كتب، صلى الله عليه وسلم، وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ