ولقد أتى على اللغة مئات من السنين بعد ذلك لم يزد فيها حرف بل لم يكد يحفظ منها ما يزيد على الحوائج البيئية والسوقية، وعلى تناقض وتراجع عددها يومًا بعد يوم، بما طرأ1 على أهلها من الضغط والفاقة2، وما اتصل بذلك من استيلاء الجهل، وتقلص العمران، وذهاب الحضارة من بينهم، حتى عادت حوائج كثير من أهل المدن الحافلة لا تكاد تتعدى حوائج البدوي والأَكَّار3.
وما دامت المعاني التي يعبر عنها باللغة معدومة، فلا سبيل إلى الألفاظ الدالة عليها؛ إذ اللفظ إنما يتخذ للعبارة عن الخواطر التي في التنفس، فلا يكون إلا على قدرها بالضرورة، وزاد على ذلك كله ذهاب ما كتب المتقدمون، بعضه بالإحراق كما تم في مكتبة قرطبة، وكان هذا في مقابلة ما وقع من مثله بالإسكندرية وفارس4، وبعضه بالاجتياح5 والنهب، فلا بقي في مكانه ينتفع به المتأخر، ولا احتفظ به الذي نهبه لجهله قيمته.
وبقي الشيء اليسير نجده اليوم في مكاتب الأعاجم، وأكثره مما اشترى من أيدينا بالذهب. فلا غرو أن نشأ عن تلك أحوال كلها ذهاب هذه الأمة من ألسنة الأعقاب حتى لو رام أحدنا إثارة دفائنها وتعهدها بالتجديد والإحياء، لما وجد منها في البلاد إلا الشيء النزر6 لا يعدو في الغالب علوم الدين، وما يتصل بها مما لم يكد أهل بلادنا، يحافظون على سواه"7.
يؤكد اليازجي في مقاله أن اللغة لم توضع دفعة واحدة، وإنما توالدت ألفاظها حسب الحاجة؛ كي تؤدي ما يحتاجه الناس عملًا بسنة الاشتقاق والوضع والارتجال، فكشف النقاب عن إمكانيات اللغة العربية على استيعاب جميع المدنيات. والمقال يبرز قدرة اليازجي على توضيح ما يدور بخلده دون اللجوء إلى المترادفات في إبراز فكرته، وتصوير خواطره.