ولا يعد المرء مؤمنا بالقدر حتى يؤمن بمراتبه الأربع التي هي بمثابة الأركان فيه، وهي: علم الله بالأشياء قبل كونها، وكتابة كل ما هو كائن قبل أن يكون، ومشيئة الله للأشياء قبل وقوعها، وخلقه للأشياء وإيجادها. فهذه أركان أربعة تشهد لها نصوص الكتاب والسنة1.

أما المنحرفون عن الكتاب والسنة في هذا الباب، فقد أفرطوا وفرطو؛ فالقدرية -ويمثلهم المعتزلة- جفوا في إثبات القدر؛ فنفوا قدرة الله عز وجل وخلقه لأفعال عباده، وقالوا: إن الله لا يقدر على عين مفعول العباد. وعليه فأفعال العباد -عندهم- ليست مخلوقة لله، وإنما العبد هو الذي يخلق فعله2، فأنكروا خلق الله لأفعال عباده، وهي المرتبة الرابعة من مراتب الإيمان بالقدر.

والجبرية -ومنهم الجهمية- غلوا في إثبات القدر، ونفوا مسئولية العبد عن أفعاله؛ فهو لا يريد فعلها ولا عدمه، ولا يقدر عليه، وقالوا: "لا فعل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده، وأنه هو الفاعل، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز؛ كما يقال: تحركت الشجرة، ودار الفلك، وزالت الشمس. وإنما فعل ذلك بالشجرة والفلك والشمس الله سبحانه"3، وهو الذي يخلق الأفعال في الإنسان، على حسب ما يخلق في سائر الجمادات4. فأنكروا فعل العبد لأفعاله، ونسبوا ذلك إلى الله. فالقدرية نفوا القدر وقالوا: الخلق خلق العبد، والجبرية غلوا في إثبات القدر حتى قالوا: الفعل فعل الرب.

وبرزت وسطية أهل السنة في هذا الباب حين أثبتوا للعبد مسئولية عن أفعاله، وإرادة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015