أحوال أمم كانوا يسمعون أخبارها من أفواه التجار والسياح والملاحين فإذا وصلت إليهم كان عنصر الخيال فيها الذي يميل إلى التفخيم والتجسيم قد انتهى من عمله وأدى واجبه، فصححت فتوحات الإسكندر هذه للهلال الخصيب ولمصر، بعض تلك الأوهام، وجاءت بعلماء من اليونان إلى هذه البلاد، ولا سيما مصر فأفادوا واستفادوا، وصارت "الإسكندرية" بصورة خاصة، وبعض مدن بلاد الشأم ملتقى الثقافات، الثقافات الشرقية والثقافات الغربية، ومركز الاتصال العقلي بين الغرب والشرق وبقيت الإسكندرية محافظة على مكانتها هذه حتى ظهور الإسلام.
وقد حملت فتوحات الإسكندر والحروب، التي وقعت بين الروم والفرس إلى الشرق الأدنى، دمًا جديدًا هو دم الإغريق ومن دخل في خدمة الإسكندر واليونان والرومان من الجنود والمتطوعة والمرتزقة من سواحل البحر المتوسط الشمالية وما صاقبها من أصقاع أوروبية، لقد بنى الإسكندر الأكبر مدينة Charax على ملتقى نهر "كارون" بدجلة1. وأسكنها أتباعه وجنوده ومواطني المدينة الملكية. كما بنى مدنًا أخرى، وقد كان من المحبين المولعين ببناء المدن، وبنى خلفاؤه مدنًا جديدة في الشرق، وكذلك من أخذ تراثهم من اليونان والرومان2. وحمل الفرس عددًا من أسرى الروم، وأسكنوهم في ساحل الخليج وفي مواضع أخرى. وطبيعي أن تترك سكنى هؤلاء في الشرق أثرًا ثقافيًّا في الأماكن التي أقاموا فيها وفي نفوس من جاورهم أدرك قيمته المؤرخون المعاصرون.
والمؤرخ "بلينيوس"، وهو أول من أشار إلى مدينة Charax، هذه المدينة التي أنشأها الإسكندر. في جملة المدن التي أنشأها في الشرق، ويظن أنها "المحمرة"3 بنيت هذه المدينة -كما يقول: "بلينيوس"- في النهاية القصوى من الخليج العربي أي الخليج الذي يسمى اليوم باسم "خليج البصرة" أو "خليج فارس" كما يسميه "الكلاسيكيون" Sinus Persicus، عند خط ابتداء العربية السعيدة arapea eudaemon أي جزيرة العرب، ويقع نهر دجلة على يمينها. وقد دعيت "الإسكندرية" نسبة إلى الإسكندر. وقد خربت هذه المدينة مرارًا من فيضان الأنهر وإغراقها لها، ثم بناها "انطيوخس الرابع".