وأود أن أشير هنا إلى أهمية "التلمود" و"المشنه" و"الكمارة" بالنسبة لتأريخ العراق، ففي أبوابها بحوث قيمة عن مدن العراق وجغرافية العراق في عهد تدوين هذه الكتب، وهي تمتد لمئات من السنين. ففي "القيدوشين" مثلًا، أسئلة وأجوبة عن "إقليم بابل" وعن "ميسان" "Mesene" وعن "ميديا"، وقد وردت فيها أسماء مدن وأنهار وقرى وغير ذلك مما يساعد كثيرًا في فهم جغرافية العراق في عهود ما قبل الميلاد وما بعده1.

وقد تساهل الفرس في الغالب مع اليهود، فمنحوهم استقلالًا ذاتيًّا واسعًا في إدارة شئون مستوطناتهم وفي ممارسة طقوسهم الدينية وفي الاتجار، حتى صارت كل مستوطنة تدير شئونها بنفسها وتختار حاكمها بنفسها، حتى إن بعضها وضعت على رأسها حاكما يهوديا لقبته بلقب "ملك"، أدار شئون الجالية طبقًا لأحكام يهود, وكان هؤلاء الحكام هم الصلة بين اليهود وبين الفرس. وقد صارت بعض هذه المستوطنات من أهم المراكز العلمية عند اليهود في العالم، ومن ضمن ذلك فلسطين. وفي هذه المواضع دون "التلمود البابلي"، دونه أحبارهم الذين استقروا في العراق, وهو يعد من أثمن التراث العبراني الذي ظهر عند اليهود. وقد تأثر بالروح العراقية حتى امتاز بها على التلمود الأورشليمي، أي: التلمود الذي كتب في فلسطين.

وقد لاقى اليهود مساعدة حسنة من العرب، وعُوملوا معاملة طيبة, ويظهر من مواضع في التلمود والمشنه، أن العبرانيين فروا إلى جزيرة العرب منذ أيام "بخت نصر"2, وقد تأثر اليهود النازحون إلى جزيرة العرب بعادات العرب ورسومهم. ويحدثنا "أبا أريخا" من الأحبار وكبار علماء التلمود في القرن الثالث الميلادي، أن اليهود كانوا يؤثرون حكم الإسماعيليين، ويقصد بهم العرب، على الرومان، ويؤثرون حكم الرومان على حكم المجوس3. ومع ذلك، فقد حدث خصام بين العرب واليهود، فنجد في "التلمود" مواضع يظهر فيها حقد اليهود على العرب وكراهيتهم لهم؛ كالذي يظهر من كلام "الحبر يشوعه بن ليفي"4 "يشوعه بر ليفي"، حين رأى أكوامًا من العنب مكدسة، فقال: "يا للبلاد,

طور بواسطة نورين ميديا © 2015