حُجّاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم، وكانت قريش، مع فصاحتها وحسن لُغاتها، ورقة ألسنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم، وأصفى كلامهم؛ فاجتمع ما تخيّروا من تلك اللغات إلى سلائقهم التي طبعوا عليها؛ فصاروا بذلك أفصح العرب.
ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عَنعَنة تميم، ولا عجرفية قيس، ولا كشكشة أسد، ولا كسكسة ربيعة، ولا كَسْر أسد وقيس"1.
"وقال أبو نصر الفارابي في أول كتابه المسمى بالألفاظ والحروف: كانت قريش أجود العرب انتقادًا للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانة عمّا في النفس"2. وقال ابن خلدون: كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها لبعدها عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، فصانها بعدها عن الأعاجم من الفساد والتأثر بأساليب العجم، حتى عن سائر العرب على نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية3.
وروي أن "معاوية" قال يومًا: "من أفصح الناس؟ فقال قائل: قوم ارتفعوا عن لخلخانية الفرات، وتيامنوا عن عنعنة تميم، وتياسروا عن كسكسة بكر، ليست لهم غمغمة قضاعة، ولا طمطمانية حمير. قال: من هم؟ قال: قريش"4. وقال "ثعلب": "ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم، وكشكشة ربيعة، وكسكسة هوازن، وتضجع قيس، وعجرفية ضبّة، وتلتلة بهراء"5. وورد كلام "معاوية" مع الأعرابي على هذه الصورة: أن "معاوية" قال: أي الناس أفصح؟ فقام رجل فقال: قوم ارتفعوا عن فراتية العراق،