الأعرابي هذا المنطق ودرَّسته هذا الدرس, درَّسته في الوقت نفسه أن الاستهتار بالسلب والنهب والقتل يؤذيه ويهلكه، وأنه لا بد له من الحد من غلوائه ومن اعتدائه على غيره, ووضعت له حدودا وقيودا من طبيعة هذه الحياة التي يحياها. منها عرف "العصبية"، والأخذ بالثأر, وغير ذلك من أعراف أملتها الطبيعة على سكان هذه البوادي، وصارت سننًا متبعة بعضها يتعلق بالأعراف التي تخص داخل القبيلة، وبعضها يتعلق بالأعراف التي تتعلق بالقبائل المتحالفة, ومنها ما يتعلق بالأعراف التي تكون بين القبائل المتعادية.
والقاعدة عند العرب: أن الدم -كما سبق أن قلت- لا يغسل إلا بالدم، وأن تعويض الدم بمال يرضى عنه "آل" القتيل، منقصة وذلة لا يقبل بها إلا ضعاف النفوس. أما أهل البيوت والحمولة، فلا يقبلون إلا بالقِصاص وبأخذ الثأر, وبقتل رجل كفء يكافئ المقتول في المنزلة والدرجة والمكانة، فإذا كان القتيل سيد قبيلة والقاتل من عامة الناس أو من عبيدهم، أبوا الاكتفاء بقتله به اقتصاصًا منه، إذ إنه دون القتيل في المنزلة والشرف والمكانة، بل لا بد عندهم من قتل سيد من سادات القبيلة التي يكون منها القاتل، على أن يكون مكافئًا للقتيل حتى يغسل الدم, وإن كان ذلك السيد بعيدًا عن القاتل ولا صلة له به, فالسيد سيد ولا يغسل دمه إلا بدم سيد مثله. ولعل الطبيعة وضعت لهم هذه السنة لتأديب سادات القبيلة, أو غيرهم ممن قد يحرضون العبيد أو غيرهم من السوقة على قتل خصومهم وأعدائهم, فإذا عرفوا أن أهل القتيل سينتقمون منهم بقتلهم، حاربوا سَفَكَة الدماء من أتباعهم ولاحقوهم, وبذلك ينظفون المجتمع منهم، ويخلصون الناس من سفاكي الدماء.
والأصل في القتل: القِصَاص وقتل القاتل بدل القتيل, فيطالب أهل المقتول بالقَوَد وهو قتل النفس بالنفس, وقد ورد ذكره في الحديث، إذ جاء: "من قتل عمدًا، فهو قود" 1. وإذا لم يتم القود، أو لم يحدث التراضي على الدية، أو إذا فر القاتل، فلا بد من الأخذ بالثأر, ولا يستقر لأهل القتيل قرار إلا بعد الأخذ بثأر القتيل. وقد يتركون الخمر والطيبات ولا يقربون النساء طيلة طلبهم للثأر. وقد يلبسون ألبسة الحزن ويجزُّون شعورهم، ولا يأكلون لحمًا،