بِبَادِيَةٍ نَائِيَةٍ عَنْ الْأَمْصَارِ، عُرِّفَ وُجُوبَهَا، وَلَا يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا نَاشِئًا بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ، تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ وَيُسْتَتَابُ ثَلَاثًا، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ؛ لِأَنَّ أَدِلَّةَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ ظَاهِرَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، فَلَا تَكَادُ تَخْفَى عَلَى أَحَدِ مِمَّنْ هَذِهِ حَالُهُ، فَإِذَا جَحَدَهَا لَا يَكُونُ إلَّا لِتَكْذِيبِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَكُفْرِهِ بِهِمَا.
(1691) فَصْلٌ: وَإِنْ مَنَعَهَا مُعْتَقِدًا وُجُوبَهَا، وَقَدَرَ الْإِمَامُ عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُ، أَخَذَهَا وَعَزَّرَهُ، وَلَمْ يَأْخُذْ زِيَادَةً عَلَيْهَا، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُمْ. وَكَذَلِكَ إنَّ غَلَّ مَالَهُ فَكَتَمَهُ حَتَّى لَا يَأْخُذَ الْإِمَامُ زَكَاتَهُ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: يَأْخُذُهَا وَشَطْرَ مَالِهِ؛ لِمَا رَوَى بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «فِي كُلِّ سَائِمَةِ الْإِبِلِ، فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، لَا تُفَرَّقُ عَنْ حِسَابِهَا، مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا، وَمَنْ أَبَاهَا فَإِنِّي آخُذْهَا وَشَطْرَ مَالِهِ، عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا، لَا يَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ» وَذُكِرَ هَذَا الْحَدِيثُ لِأَحْمَدَ فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا وَجْهُهُ؟ وَسُئِلَ عَنْ إسْنَادِهِ، فَقَالَ: هُوَ عِنْدِي صَالِحُ الْإِسْنَادِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، فِي " سُنَنِهِمَا ".
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ» . وَلِأَنَّ مَنْعَ الزَّكَاةِ كَانَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ تَوَفُّرِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْهُمْ زِيَادَةً، وَلَا قَوْلًا بِذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْعُذْرِ عَنْ هَذَا الْخَبَرِ. فَقِيلَ: كَانَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ، حَيْثُ كَانَتْ الْعُقُوبَاتُ فِي الْمَالِ، ثُمَّ نُسِخَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ.
وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ، عَنْ إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ السِّنُّ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ مِنْ خِيَارِ مَالِهِ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي سِنٍّ وَلَا عَدَدٍ، لَكِنَّ يَنْتَقِي مِنْ خَيْرِ مَالِهِ مَا تَزِيدُ بِهِ صَدَقَتُهُ فِي الْقِيمَةِ بِقَدْرِ شَطْرِ قِيمَةِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ. فَيَكُونُ الْمُرَادُ ب " مَا لَهُ " هَاهُنَا الْوَاجِبَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، فَيُزَادُ عَلَيْهِ فِي الْقِيمَةِ بِقَدْرِ شَطْرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَأَمَّا إنْ كَانَ مَانِعُ الزَّكَاةِ خَارِجًا عَنْ قَبْضَةِ الْإِمَامِ قَاتَلَهُ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَاتَلُوا مَانِعِيهَا، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَاتَلْتهمْ عَلَيْهِ. فَإِنْ ظَفِرَ بِهِ وَبِمَالِهِ، أَخَذَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ أَيْضًا، وَلَمْ تُسْبَ ذُرِّيَّتُهُ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّ الْمَانِعَ لَا يُسْبَى، فَذُرِّيَّتُهُ أَوْلَى. وَإِنْ ظَفِرَ بِهِ دُونَ مَالِهِ، دَعَاهُ إلَى أَدَائِهَا، وَاسْتَتَابَهُ ثَلَاثًا، فَإِنْ تَابَ وَأَدَّى، وَإِلَّا قُتِلَ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِكُفْرِهِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَكْفُرُ بِقِتَالِهِ عَلَيْهَا، فَرَوَى الْمَيْمُونِيُّ