(1535) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِمُتَّبِعِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَكُونَ مُتَخَشِّعًا، مُتَفَكِّرًا فِي مَآلِهِ، مُتَّعِظًا بِالْمَوْتِ، وَبِمَا يَصِيرُ إلَيْهِ الْمَيِّتُ، وَلَا يَتَحَدَّثُ بِأَحَادِيثِ الدُّنْيَا، وَلَا يَضْحَكُ، قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: مَا تَبِعْت جِنَازَةً فَحَدَّثْت نَفْسِي بِغَيْرِ مَا هُوَ مَفْعُولٌ بِهَا. وَرَأَى بَعْضُ السَّلَفِ رَجُلًا يَضْحَكُ فِي جِنَازَةٍ، فَقَالَ: أَتَضْحَكُ وَأَنْتَ تَتْبَعُ الْجِنَازَةَ؟ لَا كَلَّمْتُك أَبَدًا.
(1536) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: " وَالْمَشْيُ أَمَامَهَا أَفْضَلُ " أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ الْفَضِيلَةَ لِلْمَاشِي أَنْ يَكُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِي قَتَادَةَ، وَأَبِي أُسَيْدَ، وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَشُرَيْحٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: الْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْجِنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ، وَلَا تُتْبَعُ، لَيْسَ مِنْهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا» . وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «فَضْلُ الْمَاشِي خَلْفَ الْجِنَازَةِ عَلَى الْمَاشِي قُدَّامَهَا، كَفَضْلِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى التَّطَوُّعِ، سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَلِأَنَّهَا مَتْبُوعَةٌ فَيَجِبُ أَنْ تُقَدَّمَ كَالْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " مَنْ تَبِعَ جِنَازَةً ". وَلَنَا، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَعَنْ أَنَسٍ نَحْوُهُ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، كَانُوا يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ، وَلِأَنَّهُمْ شُفَعَاءُ لَهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَا مِنْ مَيِّتٍ تُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، يَبْلُغُونَ مِائَةً، كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ، إلَّا شُفِّعُوا فِيهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالشَّفِيعُ يَتَقَدَّمُ الْمَشْفُوعَ لَهُ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَرْوِيه أَبُو مَاجِدٍ، وَهُوَ مَجْهُولٌ، قِيلَ لِيَحْيَى: مَنْ أَبُو مَاجِدٍ هَذَا؟ قَالَ: طَائِرٌ طَارَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ يُضَعِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ. وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ لَمْ يَذْكُرْهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ. وَقَالُوا: هُوَ ضَعِيفٌ.
ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهَا إلَى مَوْضِعِ الصَّلَاةِ أَوْ الدَّفْنِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا. وَقِيَاسُهُمْ يَبْطُلُ بِسُنَّةِ الصُّبْحِ وَالظُّهْرِ، فَإِنَّهَا تَابِعَةٌ لَهُمَا، وَتَتَقَدَّمُهُمَا فِي الْوُجُودِ.