(8162) فَصْلٌ: فَإِنْ نَادَاهُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ، فَلَمْ يَسْمَعُ، لِتَشَاغُلِهِ، أَوْ غَفْلَتِهِ، حَنِثَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ فُلَانًا، فَنَادَاهُ، وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَا يَسْمَعُ؟ قَالَ: يَحْنَثُ. لِأَنَّهُ قَدْ أَرَادَ تَكْلِيمَهُ، وَهَذَا لِكَوْنِ ذَلِكَ يُسَمَّى تَكْلِيمًا، يُقَالُ: كَلَّمْتُهُ، فَلَمْ يَسْمَعْ. وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا، أَوْ غَائِبًا، أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ، أَوْ أَصَمَّ لَا يَعْلَمُ بِتَكْلِيمِهِ إيَّاهُ، لَمْ يَحْنَثْ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِنِدَاءِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلَّمَهُمْ وَنَادَاهُمْ، وَقَالَ: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ» .
وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] . وَلِأَنَّهُ قَدْ بَطَلَتْ حَوَاسُّهُ، وَذَهَبَتْ نَفْسُهُ، فَكَانَ أَبْعَدَ مِنْ السَّمَاعِ مِنْ الْغَائِبِ الْبَعِيدِ، لِبَقَاءِ الْحَوَاسِّ فِي حَقِّهِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرَامَةً لَهُ، وَأَمْرًا اخْتَصَّ بِهِ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ.
فَصْلٌ: وَإِنْ سَلَّمَ عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، حَنِثَ لِأَنَّ السَّلَامَ كَلَامٌ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهِ. وَإِنْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ هُوَ فِيهِمْ، أَوْ كَلَّمَهُمْ، فَإِنْ قَصَدَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ كَلَّمَهُ، وَإِنْ قَصَدَهُمْ دُونَهُ، لَمْ يَحْنَثْ. قَالَ الْقَاضِي: لَا يَحْنَثُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً.
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ، فَإِذَا نَوَاهُ بِهِ، فَهُوَ عَلَى مَا نَوَاهُ. وَإِنْ أَطْلَقَ، حَنِثَ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مُكَلِّمٌ لِجَمِيعِهِمْ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى اللَّفْظِ الْعُمُومُ، فَيُحْمَلُ عَلَى مُقْتَضَاهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْعَامَّ يَصْلُحُ لِلْخُصُوصِ، فَلَا يَحْنَثُ بِالِاحْتِمَالِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ مَرْجُوحٌ، فَيَتَعَيَّنُ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ، كَمَا احْتَمَلَ اللَّفْظُ الْمَجَازَ الَّذِي لَيْسَ بِمُشْتَهِرٍ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ حَمْلَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ عِنْدَ إطْلَاقِهِ.
فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِيهِمْ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَثْنَاهُ. وَالثَّانِيَةُ، يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَرَادَهُمْ بِسَلَامِهِ، وَهُوَ مِنْهُمْ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ النَّاسِي. وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَلَا يَعْرِفُهُ، فَقَالَ أَحْمَدُ: يَحْنَثُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَحْنَثَ؛ بِنَاءً عَلَى النَّاسِي وَالْجَاهِلِ.