كَاخْتِصَاصِ الْهَدِيَّةِ وَالْعُمْرَى بِاسْمَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجْهُمَا ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِمَا هِبَةً، وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَثْبُتُ لِلنَّوْعِ مَا لَا يَثْبُتُ لِلْجِنْسِ، كَمَا يَثْبُتُ لِلْآدَمِيِّ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا لَا يَثْبُتُ لِمُطْلَقِ الْحَيَوَانِ. وَإِنْ وَصَّى لَهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ، وَالْوَصِيَّةُ إنَّمَا تُمْلَكُ بِالْقَبُولِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَإِنْ أَعَارَهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكُ الْأَعْيَانِ، وَلَيْسَ فِي الْعَارِيَّةِ تَمْلِيكُ عَيْنٍ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَا يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ، وَإِنَّمَا يَسْتَبِيحُهَا، وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْمُعِيرُ الرُّجُوعَ فِيهَا، وَلَا يَمْلِكُ الْمُسْتَعِيرُ إجَارَتَهَا، وَلَا إعَارَتَهَا. هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ هِبَةُ الْمَنْفَعَةِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَإِنْ أَضَافَهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْلِكْهُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا أَبَاحَهُ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِغَيْرِ الْأَكْلِ. وَإِنْ بَاعَهُ وَحَابَاهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ يَمْلِكُ الشَّفِيعُ أَخْذَ جَمِيعِ الْمَبِيعِ، وَلَوْ كَانَ هِبَةً أَوْ بَعْضُهُ هِبَةً، لَمْ يَمْلِكْ أَخْذَهُ كُلَّهُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَحْنَثُ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَتْرُكُ لَهُ بَعْضَ الْمَبِيعِ بِغَيْرِ ثَمَنٍ، أَوْ وَهَبَهُ بَعْضَ الثَّمَنِ. وَإِنْ وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ لَهُ بِعَيْنٍ فِي الْحَيَاةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَحْنَثَ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يُمْلَكُ، فِي رِوَايَةٍ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، فَوَهَبَ لَهُ، لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ نَوْعٌ مِنْ الْهِبَةِ، وَلَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ عَلَى نَوْعٍ بِفِعْلِ نَوْعٍ آخَرَ، وَلَا يَثْبُتُ لِلْجِنْسِ حُكْمُ النَّوْعِ، وَلِهَذَا حَرُمَتْ الصَّدَقَةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ تَحْرُمْ الْهِبَةُ وَلَا الْهَدِيَّةُ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَهَبُ لَهُ شَيْئًا، فَأَسْقَطَ عَنْهُ دَيْنًا، لَمْ يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكُ عَيْنٍ، وَلَيْسَ لَهُ إلَّا دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ.
مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ فُلَانًا، أَوْ لَا يَضْرِبَهُ، فَوَكَّلَ فِي الشِّرَاءِ وَالضَّرْبِ، حَنِثَ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا، فَوَكَّلَ مَنْ فَعَلَهُ، حَنِثَ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْنَثُ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِيَمِينِهِ أَنْ لَا يَسْتَنِيبَ فِي فِعْلِهِ، أَوْ يَكُونَ مِمَّنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِمُبَاشَرَتِهِ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ إضَافَةِ الْفِعْلِ يَقْتَضِي مُبَاشَرَتَهُ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَكُلَّهُ فِي الْبَيْعِ لَمْ يَجُزْ لِلْوَكِيلِ تَوْكِيلُ غَيْرِهِ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ وَلَا يَضْرِبُ، فَأَمَرَ مَنْ فِعْلِهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَتَوَلَّاهُ، كَالسُّلْطَانِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ، فَأَمَرَ مَنْ حَلَقَهُ، فَقِيلَ: فِيهِ قَوْلَانِ وَقِيلَ: يَحْنَثُ، قَوْلًا وَاحِدًا. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ، فَوَكَّلَ مَنْ بَاعَ، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ، وَلَا يَتَزَوَّجُ، فَوَكَّلَ مَنْ فَعَلَهُ، حَنِثَ.
وَلَنَا أَنَّ الْفِعْلَ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ وَكَّلَ فِيهِ، وَأَمَرَ بِهِ، فَيَحْنَثُ بِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ، وَكَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ، فَأَمَرَ مَنْ حَلَقَهُ، أَوْ لَا يَضْرِبُ، فَوَكَّلَ مَنْ ضَرَبَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: