الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِأَنَّهُ كَفَّرَ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ، فَأَجْزَأَ، كَمَا لَوْ كَفَّرَ بَعْدَ الْجَرْحِ، وَقَبْلَ الزَّهُوقِ، وَالسَّبَبُ هُوَ الْيَمِينُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] . وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] .
وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِك» . وَتَسْمِيَةِ الْكَفَّارَةِ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ، وَبِهَذَا يَنْفَصِلُ عَمَّا ذَكَرُوهُ، فَإِنَّ الْحِنْثَ شَرْطٌ وَلَيْسَ بِسَبَبٍ، وَتَعْجِيلُ حَقِّ الْمَالِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ وَقَبْلَ وُجُودِ شَرْطِهِ جَائِزٌ، بِدَلِيلِ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُودِ النِّصَابِ وَقَبْلَ الْحَوْلِ، وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ بَعْدَ الْجَرْحِ وَقَبْلَ الزَّهُوقِ. قَالَ ابْنُ عَبْدَ الْبَرِّ: الْعَجَبُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَجَازُوا تَقْدِيمَ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْوُوا فِيهَا مِثْلَ هَذِهِ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ، وَيَأْبُونَ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ مَعَ كَثْرَةِ الرِّوَايَةِ الْوَارِدَةِ فِيهَا، وَالْحُجَّةُ فِي السُّنَّةِ، وَمَنْ خَالَفَهَا مَحْجُوجٌ بِهَا.
فَأَمَّا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِالْأَحَادِيثِ، مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ احْتَجُّوا بِهَا فِي الْبَعْضِ، وَخَالَفُوهَا فِي الْبَعْضِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ مَا جَمَعَ بَيْنَهُ النَّصُّ وَلِأَنَّ الصِّيَامَ نَوْعُ تَكْفِيرٍ، فَجَازَ قَبْلَ الْحِنْثِ، كَالتَّكْفِيرِ بِالْمَالِ، وَقِيَاسُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْكَفَّارَةِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهَا عَلَى الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ بِأَصْلِ الْوَضْعِ.
(7991) فَصْلٌ: فَأَمَّا التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْيَمِينِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ تَقْدِيمٌ لِلْحُكْمِ قَبْلَ سَبَبِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَتَقْدِيمِ الزَّكَاةِ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ، وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ قَبْلَ الْجَرْحِ.
(7992) فَصْلٌ وَالتَّكْفِيرُ قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ فِي الْفَضِيلَةِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: بَعْدَهُ أَفْضَلُ عِنْدَ أَحْمَدَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ وَحُصُولِ الْيَقِينِ بِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ. وَلَنَا، أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِيهِ، فِيهَا التَّقْدِيمُ مَرَّةً وَالتَّأْخِيرُ أُخْرَى، وَهَذَا دَلِيلُ التَّسْوِيَةِ، وَلِأَنَّهُ تَعْجِيلُ مَالٍ يَجُوزُ تَعْجِيلُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ، فَلَمْ يَكُنْ التَّأْخِيرُ أَفْضَلَ، كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مُعَارَضٌ بِتَعْجِيلِ النَّفْعِ لِلْفُقَرَاءِ، وَالتَّبَرُّعِ بِمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنَّ الْخِلَافَ الْمُخَالِفَ لِلنُّصُوصِ لَا يُوجِبُ تَفْضِيلَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، كَتَرْكِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ.
(7993) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ مَحْظُورًا، فَعَجَّلَ الْكَفَّارَةَ قَبْلَهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَجَّلَ أَحَدَهُمَا تُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ عَجَّلَ الْكَفَّارَةَ بَعْدَ سَبَبَهَا، فَأَجْزَأَتْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْحِنْثُ مُبَاحًا.