وَاَلَّذِي يَأْخُذُهُ بَعْضُنَا مِنْ بَعْضٍ هُوَ الزَّكَاةُ، مِنْ كُلِّ مَالٍ زَكَوِيٍّ لِأَيِّ مُسْلِمٍ كَانَ، مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَصَحِيحٍ وَمَرِيضٍ، كَذَلِكَ الْمَأْخُوذُ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ، وَلِأَنَّ نِسَاءَهُمْ وَصِبْيَانَهُمْ صِينُوا عَنْ السَّبْيِ بِهَذَا الصُّلْحِ، وَدَخَلُوا فِي حُكْمِهِ، فَجَازَ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْوَاجِبِ بِهِ، كَالرِّجَالِ الْعُقَلَاءِ.
وَعَلَى هَذَا، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فَقِيرًا أَوْ لَهُ مَالٌ غَيْرُ زَكَوِيٍّ كَالدُّورِ، وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ، وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الزَّكَاةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تُؤْخَذُ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا. فَأَمَّا مَصْرِفُ الْمَأْخُوذِ مِنْهُمْ، فَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّ مَصْرِفَهُ مَصْرِفُ الْفَيْءِ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ مُشْرِكٍ، وَلِأَنَّهُ جِزْيَةٌ مُسَمَّاةٌ بِالصَّدَقَةِ.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: مَصْرِفُهُ إلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّهُ مُسَمًّى بِاسْمِ الصَّدَقَةِ مَسْلُوكٌ بِهِ فِي مَنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ - مَسْلَكُ الصَّدَقَةِ، فَيَكُونُ مَصْرِفُهُ مَصْرِفَهَا. وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ وَأَصَحُّ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الشَّيْءِ أَخَصُّ بِهِ مِنْ اسْمِهِ، وَلِهَذَا لَوْ سُمِّيَ رَجُلٌ أَسَدًا، أَوْ نَمِرًا، أَوْ أَسْوَدَ، أَوْ أَحْمَرَ، لَمْ يَصِرْ لَهُ حُكْمُ الْمُسَمَّى بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ صَدَقَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ، لَجَازَ دَفْعُهَا إلَى فُقَرَاءِ مَنْ أُخِذَتْ مِنْهُمْ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ» .
(7671) فَصْلٌ: فَإِنْ بَذَلَ التَّغْلِبِيُّ أَدَاءَ الْجِزْيَةِ، وَتُحَطُّ عَنْهُ الصَّدَقَةُ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى هَذَا، فَلَا يُغَيَّرُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] . وَهَذَا قَدْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ، وَإِنْ كَانَ بَاذِلُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ حَرْبِيًّا، قُبِلَتْ مِنْهُ؛ لِلْآيَةِ، وَخَبَرِ بُرَيْدَةَ: «اُدْعُهُمْ إلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ أَجَابُوك، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ» .
وَلِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي صُلْحِ الْأَوَّلِينَ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ حُكْمُهُ، وَهُوَ كِتَابِيٌّ بَاذِلٌ لِلْجِزْيَةِ، فَيُحْقَنُ بِهَا دَمُهُ. وَإِنْ أَرَادَ إمَامٌ نَقْضَ صُلْحِهِمْ، وَتَجْدِيدَ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ كَفِعْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَقَدْ عَقَدَهُ مَعَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ نَقْضُهُ مَا دَامُوا عَلَى الْعَهْدِ.
(7672) فَصْلٌ: فَأَمَّا سَائِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، فَالْجِزْيَةُ مِنْهُمْ مَقْبُولَةٌ، وَلَا يُؤْخَذُونَ بِمَا يُؤْخَذُ بِهِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ. نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا وَرَوَاهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ. قَالَ: وَنَذْهَبُ إلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَوَاشِي بَنِي تَغْلِبَ خَاصَّةً الصَّدَقَةَ، وَنُضَعِّفُ عَلَيْهِمْ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَذَكَرَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ،