أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ جُنُونُهُ غَيْرَ مَضْبُوطٍ، مِثْلَ مَنْ يُفِيقُ سَاعَةً مِنْ يَوْمٍ أَوْ أَيَّامٍ، أَوْ يُصْرَعُ سَاعَةً مِنْ يَوْمٍ أَوْ أَيَّامٍ، فَهَذَا يُعْتَبَرُ حَالُهُ بِالْأَغْلَبِ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْإِفَاقَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ مُرَاعَاتُهَا، لِتَعَذُّرِ ضَبْطِهَا.
الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ مَضْبُوطًا، مِثْلَ مَنْ يُجَنُّ يَوْمًا وَيُفِيقُ يَوْمَيْنِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ أَكْثَرَ، إلَّا أَنَّهُ مَضْبُوطُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُعْتَبَرُ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ يُجَنُّ وَيُفِيقُ، فَيُعْتَبَرُ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ كَالْأَوَّلِ. وَالثَّانِي، تُلَفَّقُ أَيَّامُ إفَاقَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُفِيقًا فِي الْكُلِّ وَجَبَتْ الْجِزْيَةُ، فَإِذَا وُجِدَتْ الْإِفَاقَةُ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ وَجَبَ فِيمَا يَجِبْ بِهِ لَوْ انْفَرَدَ.
فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ أَيَّامَهُ تُلَفَّقُ، فَإِذَا كَمُلَتْ حَوْلًا، أُخِذَتْ مِنْهُ؛ لِأَنَّ أَخْذَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، أَخْذٌ لِجِزْيَتِهِ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَالصَّحِيحِ. وَالثَّانِي، يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي آخِرِ كُلِّ حَوْلٍ بِقَدْرِ مَا أَفَاقَ مِنْهُ، كَمَا لَوْ أَفَاقَ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ إفَاقَةً مُسْتَمِرَّةً. وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ ثُلُثَ الْحَوْلِ، وَيُفِيقُ ثُلُثَيْهِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ. كَمَا ذَكَرْنَا.
فَإِنْ اسْتَوَتْ إفَاقَتُهُ وَجُنُونُهُ، مِثْلُ مَنْ يُجَنُّ يَوْمًا وَيُفِيقُ يَوْمًا، أَوْ يُجَنُّ نِصْفَ الْحَوْلِ وَيُفِيقُ نِصْفَهُ عَادَةً، لُفِّقَتْ إفَاقَتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ الْأَغْلَبِ لِعَدَمِهِ، فَتَعَيَّنَ الِاحْتِمَالُ الْآخَرُ. الْحَالُ الثَّالِثُ، أَنْ يُجَنَّ نِصْفَ حَوْلٍ، ثُمَّ يُفِيقَ إفَاقَةً مُسْتَمِرَّةً، أَوْ يُفِيقَ نِصْفَهُ، ثُمَّ يُجَنَّ جُنُونًا مُسْتَمِرًّا، فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ فِي الثَّانِي، وَعَلَيْهِ فِي الْأَوَّلِ مِنْ الْجِزْيَةِ بِقَدْرِ مَا أَفَاقَ مِنْ الْحَوْلِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(7660) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا عَلَى فَقِيرٍ. يَعْنِي الْفَقِيرَ الْعَاجِزَ عَنْ أَدَائِهَا. وَهَذَا أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: يَجِبُ عَلَيْهِ «؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا» . وَلِأَنَّ دَمَهُ غَيْرُ مَحْقُونٍ، فَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ، كَالْقَادِرِ عَلَيْهِ.
وَلَنَا، أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَعَلَ الْجِزْيَةَ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ، جَعَلَ أَدْنَاهَا عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَمِلَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . وَلِأَنَّ هَذَا مَالٌ يَجِبُ بِحُلُولِ الْحَوْلِ، فَلَا يَلْزَمُ الْفَقِيرَ الْعَاجِزَ، كَالزَّكَاةِ وَالْعَقْلِ، وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يَنْقَسِمُ إلَى خَرَاجِ أَرْضٍ، وَخَرَاجِ رُءُوسٍ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهَا، وَمَا لَا طَاقَةَ لَهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ خَرَاجُ الرُّءُوسِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ، فَيَتَنَاوَلُ الْأَخْذَ مِمَّنْ يُمْكِنُ الْأَخْذُ مِنْهُ، وَمَنْ لَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ مِنْهُ، فَالْأَخْذُ مِنْهُ مُسْتَحِيلٌ، فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِهِ.