مِنْهُمْ.
وَإِنْ خَافَ الْإِمَامُ عَلَى الْفِئَةِ الْعَادِلَةِ الضَّعْفَ عَنْهُمْ، أَخَّرَ قِتَالَهُمْ إلَى أَنْ تُمْكِنَهُ الْقُوَّةُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ الِاصْطِلَامُ وَالِاسْتِئْصَالُ، فَيُؤَخِّرُهُمْ حَتَّى تَقْوَى شَوْكَةُ أَهْلِ الْعَدْلِ، ثُمَّ يُقَاتِلُهُمْ. وَإِنْ سَأَلُوهُ أَنْ يُنْظِرَهُمْ أَبَدًا، وَيَدَعَهُمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ، وَيَكُفُّوا عَنْ الْمُسْلِمِينَ، نَظَرْت، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ قُوَّتَهُ عَلَيْهِمْ، وَخَافَ قَهْرَهُمْ لَهُ إنْ قَاتَلَهُمْ، تَرَكَهُمْ. وَإِنْ قَوِيَ عَلَيْهِمْ، لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ طَاعَةَ الْإِمَامِ، وَلَا تُؤْمَنُ قُوَّةُ شَوْكَتِهِمْ، بِحَيْثُ يُفْضِي إلَى قَهْرِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ وَمَنْ مَعَهُ. ثُمَّ إنْ أَمْكَنَ دَفْعُهُمْ بِدُونِ الْقَتْلِ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُهُمْ لِأَهْلِهِمْ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إذَا حَصَلَ بِدُونِ الْقَتْلِ، لَمْ يَجُزْ الْقَتْلُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. وَإِنْ حَضَرَ مَعَهُمْ مَنْ لَا يُقَاتِلُ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، يَجُوزُ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَهَى أَصْحَابَهُ عَنْ قَتْلِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ السَّجَّادِ، وَقَالَ: إيَّاكُمْ وَصَاحِبَ الْبُرْنُسِ. فَقَتَلَهُ رَجُلٌ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
وَأَشْعَثَ قَوَّامٍ بِآيَاتِ رَبِّهِ ... قَلِيلِ الْأَذَى فِيمَا تَرَى الْعَيْنُ مُسْلِمِ
هَتَكْتُ لَهُ بِالرُّمْحِ جَيْبَ قَمِيصِهِ ... فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ
عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ غَيْرَ أَنْ لَيْسَ تَابِعًا ... عَلِيًّا وَمَنْ لَمْ يَتْبَعْ الْحَقَّ يُظْلَمْ
يُنَاشِدُنِي {حم} [الشورى: 1] ، وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ ... فَهَلَّا تَلَا {حم} [الشورى: 1] قَبْلَ التَّقَدُّمِ
وَكَانَ السَّجَّادُ حَامِلَ رَايَةِ أَبِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ يُقَاتِلُ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلِيٌّ قَتْلَهُ، وَلِأَنَّهُ صَارَ رِدْءًا لَهُمْ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] .
وَالْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي تَحْرِيمِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَإِنَّمَا خُصَّ مِنْ ذَلِكَ مَا حَصَلَ ضَرُورَةَ دَفْعِ الْبَاغِي وَالصَّائِلِ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِجْمَاعِ فِيهِ؛ وَلِهَذَا حَرُمَ قَتْلُ مُدْبِرِهِمْ وَأَسِيرِهِمْ، وَالْإِجْهَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، مَعَ أَنَّهُمْ إنَّمَا تَرَكُوا الْقِتَالَ عَجْزًا عَنْهُ، وَمَتَى مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، عَادُوا إلَيْهِ، فَمَنْ لَا يُقَاتِلُ تَوَرُّعًا عَنْهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَلَا يُخَافُ مِنْهُ الْقِتَالُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ، لَمْ يُحْتَجْ إلَى دَفْعِهِ، وَلَا صَدَرَ مِنْهُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ، فَلَمْ يَحِلَّ دَمُهُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ» .
فَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ، فِي نَهْيِهِ عَنْ قَتْلِ السَّجَّادِ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ نَهْيَ عَلِيٍّ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ مَنْ خَالَفَهُ، وَلَا يَمْتَثِلُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا قَوْلَ رَسُولِهِ، وَلَا قَوْلَ إمَامِهِ. وَقَوْلُهُمْ: لَمْ يُنْكِرْ قَتْلَهُ؛ قُلْنَا: لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا أَنَّ عَلِيًّا عَلِمَ حَقِيقَةَ الْحَالِ فِي قَتْلِهِ، وَلَا حَضَرَ قَتْلَهُ فَيُنْكِرَهُ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ طَافَ فِي الْقَتْلَى رَآهُ، فَقَالَ: السَّجَّادُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، هَذَا الَّذِي قَتَلَهُ