رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيْرُهُ. فَإِنْ قَالُوا: هَذَا يَرْوِيهِ مُظَاهِرُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. قُلْنَا: قَدْ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، كَذَلِكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، فِي (سُنَنِهِ) ، وَأَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ، فِي (جَامِعِهِ) ، وَهُوَ نَصٌّ فِي عِدَّةِ الْأَمَةِ، فَكَذَلِكَ عِدَّةُ الْحُرَّةِ.
وَلِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . وُجُوبُ التَّرَبُّصِ ثَلَاثَةً كَامِلَةً، وَمَنْ جَعَلَ الْقُرُوءَ الْأَطْهَارَ، لَمْ يُوجِبْ ثَلَاثَةً؛ لِأَنَّهُ يَكْتَفِي بِطُهْرَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ، فَيُخَالِفُ ظَاهِرَ النَّصِّ، وَمَنْ جَعَلَهُ الْحَيْضَ، أَوْجَبَ ثَلَاثَةً كَامِلَةً، فَيُوَافِقُ ظَاهِرَ النَّصِّ، فَيَكُونُ أَوْلَى مِنْ مُخَالَفَتِهِ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ اسْتِبْرَاءٌ، فَكَانَتْ بِالْحَيْضِ، كَاسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ لِمَعْرِفَةِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ الْحَمْلِ، وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَيْضُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِبْرَاءُ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ بِالْحَيْضَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالطُّهْرِ الَّذِي قَبْلَ الْحَيْضَةِ. كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ: قَوْلُهُمْ: إنَّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ حَيْضَةٌ بِإِجْمَاعٍ.
لَيْسَ كَمَا ظَنُّوا، بَلْ جَائِزٌ لَهَا عِنْدَنَا أَنْ تَنْكِحَ إذَا دَخَلَتْ فِي الْحَيْضَةِ، وَاسْتَيْقَنَتْ أَنَّ دَمَهَا دَمُ حَيْضٍ، كَذَلِكَ قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ لِيَحْيَى بْنِ أَكْثَمِ حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي مُنَاظَرَتِهِ إيَّاهُ. قُلْنَا: هَذَا يَرُدُّهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ» . وَلِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ تَعَرُّفُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْحَيْضَةِ، لَا بِالطُّهْرِ الَّذِي قَبْلَهَا، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ تَتَعَلَّقُ بِخُرُوجِ خَارِجٍ مِنْ الرَّحِمِ، فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالطُّهْرِ، كَوَضْعِ الْحَمْلِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْعِدَّةَ مَقْصُودُهَا مَعْرِفَةُ بَرَاءَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ الْحَمْلِ، فَتَارَةً تَحْصُلُ بِوَضْعِهِ، وَتَارَةً تَحْصُلُ بِمَا يُنَافِيهِ، وَهُوَ الْحَيْضُ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ مَعَهُ.
فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ قَبْلَ عِدَّتِهِنَّ، إذْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي الْعِدَّةِ، ضَرُورَةَ أَنَّ الطَّلَاقَ سَبَقَ الْعِدَّةَ، لِكَوْنِهِ سَبَبَهَا، وَالسَّبَبُ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْحُكْمِ، فَلَا يُوجَدْ قَبْلَهُ، وَالطَّلَاقُ فِي الطُّهْرِ تَطْلِيقٌ قَبْلَ الْعِدَّةِ إذَا كَانَتْ الْأَقْرَاءُ الْحَيْضَ.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْحَيْضَةَ الَّتِي تَطْلُقُ فِيهَا، لَا تُحْسَبُ مِنْ عِدَّتِهَا. بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، فَتَنَاوَلَ ثَلَاثَةً كَامِلَةً، وَاَلَّتِي طَلَّقَ فِيهَا لَمْ يَبْقَ مِنْهَا مَا تَتِمُّ بِهِ مَعَ اثْنَتَيْنِ ثَلَاثَةٌ كَامِلَةٌ، فَلَا يُعْتَدُّ بِهَا. وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا حُرِّمَ فِي الْحَيْضِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا، فَلَوْ احْتَسَبَتْ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ قُرْءًا، كَانَ أَقْصَرَ لِعِدَّتِهَا، وَأَنْفَعَ لَهَا، فَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا، وَمَنْ قَالَ: الْقُرُوءُ الْأَطْهَارُ. احْتَسَبَ لَهَا بِالطُّهْرِ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ قُرْءًا، فَلَوْ طَلَّقَهَا وَقَدْ بَقِيَ مِنْ قُرْئِهَا لَحْظَةٌ، حَسَبَهَا قُرْءًا، وَهَذَا قَوْلُ كُلِّ مَنْ قَالَ: الْقُرُوءُ الْأَطْهَارُ. إلَّا الزُّهْرِيَّ وَحْدَهُ، قَالَ: تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ سِوَى الطُّهْرِ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ.
. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، أَنَّهُ إنْ كَانَ جَامَعَهَا