وَذَلِكَ يَصْلُحُ بَيَانًا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» . وَأَشَارَ بِيَدَيْهِ مَرَّةً ثَلَاثِينَ، وَمَرَّةً تِسْعًا وَعِشْرِينَ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت الْإِشَارَةَ بِالْأُصْبُعَيْنِ الْمَقْبُوضَتَيْنِ قُبِلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَا يَدَّعِيهِ الْمَوْضِعُ الثَّانِي، إذَا كَتَبَ الطَّلَاقَ، فَإِنْ نَوَاهُ طَلُقَتْ زَوْجَتُهُ وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ
وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، أَنَّ لَهُ قَوْلًا آخَرَ، أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ، وَإِنْ نَوَاهُ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مِنْ قَادِرٍ عَلَى النُّطْقِ، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ، كَالْإِشَارَةِ وَلَنَا أَنَّ الْكِتَابَةَ حُرُوفٌ، يُفْهَمُ مِنْهَا الطَّلَاقُ، فَإِذَا أَتَى فِيهَا بِالطَّلَاقِ، وَفُهِمَ مِنْهَا، وَنَوَاهُ، وَقَعَ كَاللَّفْظِ، وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَقُومُ مَقَامَ قَوْلِ الْكَاتِبِ؛ بِدَلَالَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَأْمُورًا بِتَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ، فَحَصَلَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْبَعْضِ بِالْقَوْلِ، وَفِي حَقِّ آخَرِينَ بِالْكِتَابَةِ إلَى مُلُوكِ الْأَطْرَافِ، وَلِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي يَقُومُ مَقَامَ لَفْظِهِ فِي إثْبَاتِ الدُّيُونِ وَالْحُقُوقِ؛ فَأَمَّا إنْ كَانَ كَتَبَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: قَدْ خَرَّجَهَا الْقَاضِي الشَّرِيفُ فِي " الْإِرْشَادِ " عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا، يَقَعُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالْحَكَمِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَالثَّانِيَةُ: لَا يَقَعُ إلَّا بِنِيَّةٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مُحْتَمِلَةٌ، فَإِنَّهُ يُقْصَدُ بِهَا تَجْرِبَةُ الْقَلَمِ، وَتَجْوِيدُ الْخَطِّ، وَغَمُّ الْأَهْلِ، مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، كَكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ
فَإِنْ نَوَى بِذَلِكَ تَجْوِيدَ خَطِّهِ، أَوْ تَجْرِبَةَ قَلَمِهِ، لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَوَى بِاللَّفْظِ غَيْرَ الْإِيقَاعِ، لَمْ يَقَعْ، فَالْكِتَابَةُ أُولَى وَإِذَا ادَّعَى ذَلِكَ دُيِّنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُقْبَلُ أَيْضًا فِي الْحُكْمِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُقْبَلُ ذَلِكَ فِي اللَّفْظ الصَّرِيحِ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ فَهَاهُنَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِلَفْظِ أُولَى وَإِنْ قَالَ: نَوَيْت غُمَّ أَهْلِي فَقَدْ قَالَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، فِي مَنْ كَتَبَ طَلَاقَ زَوْجَتِهِ، وَنَوَى الطَّلَاقَ: وَقَعَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَغُمَّ أَهْلَهُ، فَقَدْ عَمِلَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا يَعْنِي أَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ عَفَا لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ» فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ غَمَّ أَهْلِهِ يَحْصُلُ بِالطَّلَاقِ، فَيَجْتَمِعُ غَمُّ أَهْلِهِ وَوُقُوعُ طَلَاقِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ يُرِيدُ بِهِ غَمَّهَا
وَيَحْتَمِلُ