لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْقَافَةِ تَعْوِيلٌ عَلَى مُجَرَّدِ الشَّبَهِ وَالظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ، فَإِنَّ الشَّبَهَ يُوجَدُ بَيْنَ الْأَجَانِبِ، وَيَنْتَفِي بَيْنَ الْأَقَارِبِ، وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، فَقَالَ: هَلْ لَك مِنْ إبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا أَلْوَانُهَا؟ . قَالَ: حُمْرٌ. قَالَ: فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَنَّى أَتَاهَا ذَلِكَ؟ قَالَ: لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَ. قَالَ: وَهَذَا لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الشَّبَهُ كَافِيًا لَاكْتُفِيَ بِهِ فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ، وَفِيمَا إذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْوَرَثَةِ بِأَخٍ وَأَنْكَرَهُ الْبَاقُونَ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا مَسْرُورًا، تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ نَظَرَ آنِفًا إلَى زَيْدٍ وَأُسَامَةَ، وَقَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا، وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ؟» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَلَوْلَا جَوَازُ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْقَافَةِ لَمَا سُرَّ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَضَى بِهِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ: «اُنْظُرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ حَمْشَ السَّاقَيْنِ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ فَلَا أَرَاهُ إلَّا قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ، جَعْدًا، جُمَالِيًّا، سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِلَّذِي رُمِيَتْ بِهِ. فَأَتَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» . فَقَدْ حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي أَشْبَهَهُ مِنْهُمَا. وَقَوْلُهُ: «لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» . يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ الْعَمَلِ بِالشَّبَهِ إلَّا الْأَيْمَانُ، فَإِذَا انْتَفَى الْمَانِعُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ لِوُجُودِ مُقْتَضِيه. وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، حِينَ رَأَى بِهِ شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: «احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ» . فَعَمِلَ بِالشَّبَهِ فِي حَجْبِ سَوْدَةَ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْحَدِيثَانِ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ، إذْ لَمْ يَحْكُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشَّبَهِ فِيهِمَا، بَلْ أَلْحَقَ الْوَلَدَ بِزَمْعَةَ، «وَقَالَ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ: هُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» . وَلَمْ يَعْمَلْ بِشَبَهِ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا، لِشَبَهِهِ بِالْمَقْذُوفِ. قُلْنَا: إنَّمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ فِي ابْنِ أَمَةِ زَمَعَةَ؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ أَقْوَى، وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَةِ لِمُعَارَضَةِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا، لَا يُوجِبُ الْإِعْرَاضَ عَنْهَا إذَا خَلَتْ عَنْ الْمُعَارِضِ. وَكَذَلِكَ تَرْكُ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا مِنْ أَجْلِ أَيْمَانِهَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: «لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ.»

طور بواسطة نورين ميديا © 2015