(3826) فَصْلٌ: وَإِنْ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً بَعْدَ اسْتِثْنَاءٍ، وَعَطَفَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، كَانَ مُضَافًا إلَيْهِ. فَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً، وَإِلَّا دِرْهَمَيْنِ. كَانَ مُسْتَثْنِيًا لِخَمْسَةِ مُبْقِيًا لِخَمْسَةٍ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي غَيْرَ مَعْطُوفٍ عَلَى الْأَوَّلِ، كَانَ اسْتِثْنَاءً مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ، قَدْ جَاءَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الحجر: 58] {إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 59] {إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} [الحجر: 60] .
فَإِذَا كَانَ صَدْرُ الْكَلَامِ إثْبَاتًا، كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ الْأَوَّلُ نَفْيًا وَالثَّانِي إثْبَاتًا، فَإِنْ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً ثَالِثًا، كَانَ نَفْيًا يَعُودُ كُلُّ اسْتِثْنَاءٍ إلَى مَا يَلِيهِ مِنْ الْكَلَامِ، فَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً إلَّا دِرْهَمًا. كَانَ مُقِرًّا بِثَمَانِيَةٍ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ عَشْرَةً، ثُمَّ نَفَى مِنْهَا ثَلَاثَةً وَأَثْبَتَ دِرْهَمًا، وَبَقِيَ مِنْ الثَّلَاثَةِ الْمَنْفِيَّةِ دِرْهَمَانِ مُسْتَثْنَيَانِ مِنْ الْعَشَرَةِ، فَيَبْقَى مِنْهَا ثَمَانِيَةٌ، وَسَنَزِيدُ لِهَذَا الْفَصْلِ فُرُوعًا فِي مَسْأَلَةِ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ.
(3827) فَصْلٌ: إذَا قَالَ: لَهُ هَذِهِ الدَّارُ هِبَةً، أَوْ سُكْنَى، أَوْ عَارِيَّةٌ كَانَ إقْرَارًا بِمَا أَبْدَلَ بِهِ كَلَامَهُ، وَلَمْ يَكُنْ إقْرَارًا بِالدَّارِ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ بِآخِرِ كَلَامِهِ بَعْضَ مَا دَخَلَ فِي أَوَّلِهِ، فَصَحَّ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِجُمْلَةٍ وَاسْتَثْنَى بَعْضَهَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي هَذَا وَجْهًا، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَلَيْسَ هَذَا اسْتِثْنَاءً، إنَّمَا هَذَا بَدَلٌ، وَهُوَ سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ. وَيُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْبَدَلِ بَدَلَ الِاشْتِمَالِ، وَهُوَ أَنْ يُبْدِلَ مِنْ الشَّيْءِ بَعْضَ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] . فَأَبْدَلَ الْقِتَالَ مِنْ الشَّهْرِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أَنَّهُ قَالَ: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63] . أَيْ أَنْسَانِي ذِكْرَهُ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ هَذِهِ الدَّارُ ثُلُثُهَا. أَوْ قَالَ: رُبْعُهَا. صَحَّ، وَيَكُونُ مُقِرًّا بِالْجُزْءِ الَّذِي أَبْدَلَهُ، وَهَذَا بَدَلُ الْبَعْضِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِاسْتِثْنَاءٍ.
وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] {نِصْفَهُ} [المزمل: 3] .
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] . وَلَكِنَّهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، فِي كَوْنِهِ يُخْرِجُ مِنْ الْكَلَامِ بَعْضَ مَا يَدْخُلُ فِيهِ لَوْلَاهُ، وَيُفَارِقُهُ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ إبْدَالُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِهِ إذَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْدَلَ الْمُسْتَطِيعَ لِلْحَجِّ مِنْ النَّاسِ، وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِهِمْ، وَأَبْدَلَ الْقِتَالَ مِنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَهُوَ غَيْرُهُ؟ وَمَتَى قَالَ: لَهُ هَذِهِ الدَّارُ سُكْنَى أَوْ عَارِيَّةٌ ثَبَتَ فِيهَا حُكْمُ ذَلِكَ، وَلَهُ أَنْ لَا يُسْكِنَهُ إيَّاهَا، وَأَنْ يَعُودَ فِيمَا أَعَارَهُ.
(3828) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَنْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ لَهُ عَلَيَّ وَقَضَيْتُهُ. لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إقْرَارًا)