وَلَنَا، أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوجِبُ الْحَجَّ (الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ) ، يَتَعَيَّنُ فِيهِ تَقْدِيرُ مِلْكِ ذَلِكَ، أَوْ مِلْكِ مَا يَحْصُلُ بِهِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ كَانَ الْبَاذِلُ أَجْنَبِيًّا، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَلَا ثَمَنِهِمَا، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ، كَمَا لَوْ بَذَلَ لَهُ وَالِدُهُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مِنَّةٌ، وَلَوْ سَلَّمْنَاهُ فَيَبْطُلُ بِبَذْلِ الْوَالِدَةِ، وَبَذْلِ مَنْ لِلْمَبْذُولِ عَلَيْهِ أَيَادٍ كَثِيرَةٌ وَنِعَمٌ.
(2203) فَصْلٌ: وَمَنْ تَكَلَّفَ الْحَجَّ مِمَّنْ لَا يَلْزَمُهُ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُ بِغَيْرِهِ، مِثْلُ أَنْ يَمْشِيَ وَيَكْتَسِبَ بِصِنَاعَةٍ كَالْخَرَزِ، أَوْ مُعَاوَنَةِ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، أَوْ يَكْتَرِي لِزَادِهِ، وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ، اُسْتُحِبَّ لَهُ الْحَجُّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] فَقَدَّمَ ذِكْرَ الرِّجَالِ. وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَخُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ.
وَإِنْ كَانَ يَسْأَلُ النَّاسَ، كُرِهَ لَهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ، وَيَحْصُلُ كَلًّا عَلَيْهِمْ فِي الْتِزَامِ مَا لَا يَلْزَمُهُ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَمَّنْ يَدْخُلُ الْبَادِيَةَ بِلَا زَادٍ وَلَا رَاحِلَةٍ؟ فَقَالَ: لَا أُحِبُّ لَهُ ذَلِكَ، هَذَا يَتَوَكَّلُ عَلَى أَزْوَادِ النَّاسِ.
(2204) فَصْلٌ: وَيَخْتَصُّ اشْتِرَاطُ الرَّاحِلَةِ بِالْبَعِيدِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ، فَأَمَّا الْقَرِيبُ الَّذِي يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ، فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ الرَّاحِلَةِ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهَا مَسَافَةٌ قَرِيبَةٌ، يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ إلَيْهَا، فَلَزِمَهُ، كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ، اُعْتُبِرَ وُجُودُ الْحُمُولَةِ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْمَشْيِ، فَهُوَ كَالْبَعِيدِ. وَأَمَّا الزَّادُ فَلَا بُدَّ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ زَادًا، وَلَا قَدَرَ عَلَى كَسْبِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ.
فَصْلٌ: وَالزَّادُ الَّذِي تُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ، هُوَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ؛ مِنْ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَكُسْوَةٍ، فَإِنْ كَانَ يَمْلِكُهُ، أَوْ وَجَدَهُ يُبَاعُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ فِي الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ، أَوْ بِزِيَادَةٍ يَسِيرَةٍ لَا تُجْحِفُ بِمَالِهِ، لَزِمَهُ شِرَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَتْ تُجْحِفُ بِمَالِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ، كَمَا قُلْنَا فِي شِرَاءِ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ. وَإِذَا كَانَ يَجِدُ الزَّادَ فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ حَمْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ كَذَلِكَ، لَزِمَهُ حَمْلُهُ.
وَأَمَّا الْمَاءُ وَعَلَفُ الْبَهَائِمِ، فَإِنْ كَانَ يُوجَدُ فِي الْمَنَازِلِ الَّتِي يَنْزِلُهَا عَلَى حَسَبِ الْعَادَةِ، وَإِلَّا لَمْ يَلْزَمْهُ حَمْلُهُ مِنْ بَلَدِهِ، وَلَا مِنْ أَقْرَبِ الْبُلْدَانِ إلَى مَكَّةَ، كَأَطْرَافِ الشَّامِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا يَشُقُّ، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ حَمْلِ الْمَاءِ لِبَهَائِمِهِ