بِأَئِمَّتِهِمْ وَفُقَهَائِهِمْ، وَجَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ مَعَ عُلَمَائِهَا، كَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ مَعَ أَنْبِيَائِهَا، وَأَظْهَرَ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ مِنْ فُقَهَائِهَا أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهَا، وَيُنْتَهَى إلَى رَأْيِهَا، وَجَعَلَ فِي سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَئِمَّةً مِنْ الْأَعْلَامِ، مُهْدٍ بِهِمْ قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ، وَأَوْضَحَ بِهِمْ مُشْكِلَاتِ الْأَحْكَامِ، اتِّفَاقُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، وَاخْتِلَافُهُمْ رَحْمَةٌ وَاسِعَةٌ، تَحْيَا الْقُلُوبُ بِأَخْبَارِهِمْ، وَتَحْصُلُ السَّعَادَةُ بِاقْتِفَاءِ آثَارِهِمْ، ثُمَّ اخْتَصَّ مِنْهُمْ نَفَرًا أَعْلَى أَقْدَارَهُمْ وَمَنَاصِبَهُمْ وَأَبْقَى ذِكْرَهُمْ وَمَذَاهِبَهُمْ فَعَلَى أَقْوَالِهِمْ مَدَارُ الْأَحْكَامِ، وَبِمَذَاهِبِهِمْ يُفْتِي فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ.
وَكَانَ إمَامُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، مِنْ أَوْفَاهُمْ فَضِيلَةً، وَأَقْرَبِهِمْ إلَى اللَّهِ وَسِيلَةً، وَأَتْبَعِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْلَمِهِمْ بِهِ، وَأَزْهَدِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَأَطْوَعِهِمْ لِرَبِّهِ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ اخْتِيَارُنَا عَلَى مَذْهَبِهِ.
وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَشْرَحَ مَذْهَبَهُ وَاخْتِيَارَهَ، لِيَعْلَمَ ذَلِكَ مَنْ اقْتَفَى آثَارَهُ، وَأُبَيِّنَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِمَّا أُجْمِعَ عَلَيْهِ، وَأَذْكُرَ لِكُلِّ إمَامٍ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ، تَبَرُّكًا بِهِمْ، وَتَعْرِيفًا لِمَذَاهِبِهِمْ، وَأُشِيرَ إلَى دَلِيلِ بَعْضِ أَقْوَالِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ، وَالِاقْتِصَارِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَأَغْزُوَ مَا أَمْكَنَنِي غَزْوُهُ مِنْ الْأَخْبَارِ، إلَى كُتُبِ الْأَئِمَّةِ مِنْ عُلَمَاءِ الْآثَارِ، لِتَحْصُلَ الثِّقَةُ بِمَدْلُولِهَا، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ صَحِيحِهَا وَمَعْلُولِهَا، فَيُعْتَمَدَ عَلَى مَعْرُوفِهَا، وَيُعْرَضَ عَنْ مَجْهُولِهَا.
ثُمَّ رَتَّبْتُ ذَلِكَ عَلَى شَرْحِ مُخْتَصَرِ أَبِي الْقَاسِمِ عُمَرَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخِرَقِيِّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَحِمَهُ