"إِنَّمَا تَركها مِنْ جَرَّائي" أي: من أجلي، وهذا كقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فَإن لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمسِكْ عَن الشَّرِّ فَإِنَّهُ صَدَقَة" (?)، أمَّا مَنْ تَرَكها عَجْزًا فلا تُكْتَبُ له حسنة، وهذا من عظيم لُطْفِهِ، وما ألطف قوله: "عنده" وهو إشارة إلى الاعتناء بها، ثم أكَّدَها بـ "كاملة" لذلك، ولم يقل مثله في السَّيئة، وأكد تركها بـ "كاملة" وأكد فعلها بـ "واحدة" تقليلًا، ولم يؤكدها بـ"كاملة" وهو دالٌّ على أنَّ الحفظةَ تَكْتُبُ ما همَّ به العبدُ مِن حسنةٍ أو سيِّئة، وتعلم اعتقاده لذلك لا كما زعم بعضهم أنها إنما تَكْتُب ما ظَهر من أعمال العبد وسُمِعَ.
وقد روى ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن كثير بن الحارث، عن القاسم مولى معاوية، عن عائشة قالت: "لأن أذكر الله في قلبي أحب إليَّ مِن أن أَذكره بلساني سبعين مرَّة، وذلك لأنَّ مَلَكًا لا يكتبها، وسرًّا لا يَسمعها" (?) والصَّوابُ في ذلك: ما صَحَّ مِن الحديث عنه - عليه الصلاة والسلام- إنَّ الهمَّ بالحَسَنَةِ يُكْتَب، وهي فعل العبد بقلبه دون سائر الجوارح كالذِّكر.
والمعنى الذي يصل به الملكان الموكلان بالعبد إلى علم ما يهم به بقلبه هو المعنى الذي يصل به إلى ذكر ربه بقلبه، ويجوز أن يكون جعل الله لها إلى علم ذلك سبيلًا، كما جعل لكثير لمن أنبيائه السبيل إلى كثير من علم الغيب، وقد أخبر الله تعالى عن عيسى -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49]، وقد أخبر نبينا -صلوات الله وسلامه عليه- أيضًا بكثير من علم الغيب؛ فغير مستنكر ذلك في حق المَلَكَيْن، وقد قيل: إن ذلك بِريح يظهر لهما مِن القلب!