14813 - حدثنا عليُّ بن المباركِ، قال: ثنا زيدُ بن المباركِ، قال: ثنا عبدُالملكِ بن عبدِالرحمنِ الذِّمَاريُّ، قال: ثنا القاسمُ بن معنٍ، عن هشامِ بن عُروةَ، عن أبيه، قال: لما مات معاويةُ، تَثاقَل عبدُالله بن الزُّبيرِ عن طاعةِ يزيدَ بن معاويةَ، وأَظهر شَتْمَهُ، فبلغ ذلك -[183]- يزيدَ، فأقسم: لا يُؤتى به إلا مغلولاً، وإلا أَرسل إليه (?) . [فقيل] (?) لابن الزُّبيرِ: ألا نَصنعُ لك أغلالاً من فضةٍ تَلْبَسُ عليها الثوبَ، وتَبَرُّ قَسَمَهُ؛ فالصُّلحُ أجملُ بك؟! قال: فلا أَبَرُّ- واللهِ- قَسَمَهُ، ثم قال (?) :
وَلاَ أَلِينُ لِغَيْرِ الحَقِّ أَسْأَلُهُ ... حَتَّى يَلِينَ لِضِرْسِ المَاضِغِ الحَجَرُ
ثم قال: والله لَضربةٌ بسيفٍ في/ عِزٍّ أحبُّ إليَّ من ضربةٍ [بِسَوْطٍ] (?) في ذلٍّ. ثم دعا إلى نفسِه، وأَظهر الخلافَ ليزيدَ بن معاويةَ، فوَجَّه إليه يزيدُ بن معاويةَ مسلمَ بن عقبةَ المُرِّيَّ في جيشِ أهلِ الشامِ، وأمره بقتالِ أهلِ المدينةِ، فإذا فَرَغَ من ذلك سار إلى مكةَ. [س: 19/أ]
قال: فدخل مسلمُ بن عقبةَ المدينةَ، وهَرب منه بقايا أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وعبث فيها وأسرف في القتلِ (?) ، ثم خرج منها، فلما -[184]- كان في بعضِ الطريقِ إلى مكةَ مات، واستخلف (?) حُصينَ بن نُميرٍ الكِنْديَّ، وقال له: يا ابن بردعةِ الحمارِ، احْذَرْ [خدائعَ] (?) قريشٍ، ولا تُعامِلْهم إلا [بالثِّقافِ] (?) ، ثم [بالقِطافِ] (?) .
فمضى حُصينٌ حتى ورد مكةَ فقاتل بها ابنَ الزُّبيرِ أيامًا، وضرب ابنُ الزُّبيرِ فُِسْطاطًا في المسجدِ، فكان فيه نساءٌ يَسقين الجرحى [ويُداوينهم] (?) ، ويُطعمْنَ الجائعَ، ويَكتُمْنَ إليهنّ المجروحَ. فقال حُصينٌ: ما يزالُ يخرجُ علينا من ذلك الفُِسْطاطِ أَسدٌ كما (?) يخرجُ من عرينِه، فمن يَكفينيه؟ فقال رجلٌ من أهلِ الشامِ: أنا. فلما جنَّ عليه -[185]- الليلُ وضع شمعةً في طرفِ رُمحِهِ، ثم ضرب فرسَه، ثم طعن الفُِسطاطَ فالتهب نارًا، والكعبةُ يومئذٍ مُؤزَّرةٌ بالطَّنافِسِ (?) ، وعلى أعلاها [الحِبَرةُ] (?) ، فطارتِ الريحُ باللهبِ على الكعبةِ (?) ، حتى احترقتْ، واحترق فيها يومئذٍ قرنا الكبشِ الذي فُديَ به إسحاقُ (?) .
قال: وبلغ حصينَ بن نميرٍ موتُ يزيدَ بن معاويةَ، فهرب حصينُ ابن نميرٍ. فلما مات يزيدُ بن معاويةَ دعا مروانُ بن الحكمِ إلى نفسِهِ، فأجابه أهلُ حِمْصٍ وأهلُ الأُرْدُنِّ وفلسطينَ، فوَجَّهَ إليه ابنُ الزُّبيرِ الضَّحَّاكَ بن قيسٍ الفِهريَّ في مئةِ ألفٍ، فالتقَوْا بمرجِ راهطٍ، ومروانُ يومئذٍ في خمسةِ آلافٍ من بني أميةَ ومواليهم وأتباعِهم من أهلِ الشامِ، فقال مروانُ لمولًى له- يقال له: كرة-: احمل على أيِّ الطرفين شئتَ، فقال: كيف أحملُ على هؤلاء؟ لكثرتِهم، قال: هم من بين مكرهٍ ومستأجَرٍ، احملْ عليهم لا أمَّ لكَ، فيكفيك الطِّعان الناصع الجندل، هم يكفونكَ أنفسَهم؛ إنما هؤلاء عبيدُ الدينارِ والدرهمِ. -[186]- فحمل عليهم فهزمهم، وقُتل الضَّحّاكُ بن قيسٍ، وانصدع الجيشُ؛ ففي ذلك يقولُ زُفَرُ بن الحارثِ (?) :
لَعَمْرِي لَقَدْ أَبْقَتْ وَقِيعَةُ رَاهِطٍ ... لِمَرْوَانَ صَرْعَى بَيْنَنَا مُتَنَائِيَا (?)
أَبِيني (?) سِلاَحِي لاَ أَبَا لَكِ إِنَّنِي ... أَرَى الحَرْبَ لاَ يَزْدَادُ (?) إِلاَّ تَمَادِيَا
وَقَدْ يَنْبُتُ المَرْعَى عَلَى دِمَن الثَّرَى ... وَتَبْقَى حَزَازَاتُ النُّفُوسِ كَمَا هِيَا
وفيه يقولُ أيضًا (?) : -[187]-
أَفِي الحَقِّ أَمَّا بَحْدَلٌ وَابْنُ بَحْدَلٍ (?) ... فَيَحْيَا وَأَمَّا ابْنُ الزُّبَيرِ فَيُقْتَلُ
[كَذَبْتُمْ] (?) وَبَيْتِ الله لاَ تَقْتُلُونَهُ ... وَلَمَّا يَكُنْ يَوْمٌ أَغَرُّ مُحَجَّلُ
وَلَمَّا يَكُنْ لِلْمَشْرَفِيَّةِ فِيكُمُ و ... شُعَاعٌ كَنُورِ الشَّمْسِ حِينَ يُرَجَّلُ (?)
قال: ثم مات مروانُ، فدعا عبدُالملكِ إلى نفسِهِ وقام، فأجابه أهلُ الشامِ، فخطب على المنبرِ وقال: مَن لابن الزُّبيرِ منكم؟ فقال الحجّاجُ: أنا يا أميرَ المؤمنينَ، فأسكته، ثم عاد فأسكته، فقال: أنا يا أميرَ المؤمنين؛ فإني رأيتُ في النومِ أني انتزعتُ جُبتَه فلبستُها. / [س: 19/ب]
فعقد له في الجيشِ إلى مكةَ، حتى وردها على ابن الزُّبيرِ، [فقاتله] (?) بها، فقال ابن الزُّبيرِ لأهلِ مكةَ: احفظوا هذين الجبلينِ؛ فإنكم لن تزالوا بخيرٍ أعزةً ما لم يَظهروا عليهما. قال: فلم يَلْبَثُوا أنْ ظهر الحجّاجُ ومَن معه على "أبي قبيسٍ"، ونصب عليه المنجنيقَ، فكان يرمي به ابنَ الزُّبيرِ ومَن معه في المسجدِ.
فلمّا كان الغداةُ (?) التي قُتل فيها ابن الزُّبيرِ دخل ابن الزُّبيرِ على -[188]- أمِّه أسماءَ بنت أبي بكرٍ، وهي يومئذٍ ابنةُ مئةِ سنةً لم يَسقُطْ لها سنٌّ، ولم يَفسَدْ لها بصرٌ، فقالت لابنِها: يا عبدَالله، ما فعلتَ في حربِكَ؟ قال: بلغوا مكانَ كذا وكذا. قال: وضحك ابن الزُّبيرِ، فقال: إنّ في الموتِ لراحةً، فقالت: يا بُنيَّ، لعلَّكَ تَتمنّاه لي! ما أحبُّ أنْ أموتَ حتى آتيَ على أحدِ طرفَيْكَ: إما أنْ تملكَ؛ فتقرَّ ُبذلك عيني، وإمَّا أنْ تُقتلَ؛ فأَحتسبَُكَ. قال: فودَّعها، فقالت له: يا بُنيَّ، إياكَ أن تعطيَ خَصلةً من دينِكَ مخافةَ القتلِ.
وخرج عنها فدخل المسجدَ، وقد جَعل مِصْراعَينِ على الحجرِ الأسودِ يَتقي أنْ يصيبَه المنجنيقُ. وأتى ابنَ الزُّبيرِ آتٍ وهو جالسٌ عندَ الحجرِ فقال له: أَلاَ نفتحُ لك الكعبةَ فتصعدَ فيها؟! فنظر إليه عبدُالله ثم قال له: مِن كلِّ شيءٍ تحفظُ أخاك إلا مِن نَفسِهِ- يعني: من أَجَلِهِ- وهل للكعبةِ حرمةٌ ليست لهذا المكانِ؟! والله لو وجدوكم متعلِّقين بأستارِ الكعبةِ لقَتَلوكم! فقيل له: ألا تُكلِّمُهم في الصلحِ؟ فقال: أَوَحينُ صُلحٍ هذا؟! والله لو وجدوكم في جَوفِها لذبحوكم جميعًا! ثم أنشأ يقولُ (?) :
وَلَسْتُ بِمُبْتَاعِ الحَيَاةِ بِسُبَّةٍ ... [وَلاَ مُرْتَقٍ] (?) مِنْ خَشْيَةِ المَوْتِ سُلَّمَا -[189]-
أُنَافِسُ سهما انه غَيْرَ بَارِحٍ (?) ... مُلاَقِي المَنَايَا أَيَّ صَرْفٍ تَيَمَّمَا
ثم أقبل على [آلِ] (?) الزُّبيرِ يَعِظُهم، ويقولُ: ليُكِنَّ أَحدُكم سيفَهُ كما يُكِنُّ وجهَه، لا يُنَكِّسْ سَيفَه فيدفعَ عن نفسِهِ بيدِهِ [كأنه امرأةٌ] (?) ، والله ما لقيتُ زحفًا قطُّ إلا في الرعيلِ الأولِ، وما أَلِمْتُ جُرْحًا قط إلا أن آلمَ الدواءَ.
قال: فبينما هم كذلك، إذ دخل عليهم نفرٌ من بابِ بني جُمَحٍ [فيهم أَسودُ] (?) ، فقال: مَن هؤلاء؟ قيل: أهلُ حِمْصٍ، فحمل عليهم ومعه سيفانِ، فأولُ من لقيه الأسودُ، فضربه بسيفِهِ حتى أطنَّ رِجلَه، فقال الأسودُ: أخّ (?) ! يا ابن الزَّانيةِ! فقال له ابن الزُّبيرِ: اخسأْ يا ابن حامٍ! أسماءُ زانيةٌ؟! ثم أخرجهم من المسجدِ، وانصرف، [فإذا بقومٍ قد دخلوا من بابِ بني سهمٍ، فقال: مَن هؤلاء؟ فقيل: أهلُ الأُرْدُنِّ، فحمل عليهم وهو يقولُ: -[190]-
لاَ عَهْدَ لِي بِغَارَةٍ مِثْلِ السَّيْلْ
لا يَنْجَلِي غُبَارُها حَتَّى اللَّيْلْ
فأخرجهم من المسجدِ] (?) ، فإذا بقومٍ قد دخلوا من بابِ بني مخزومٍ، فحمل عليهم، وهو يقولُ (?) :
لَوْ كَانَ قِرْنِي (?) وَاحِدًا كَفَيْتُهُ
قال: وعلى ظهرِ المسجدِ مِن أعوانِهِ مَن يَرمي عدوَّهُ بالآجُرِّ وغيرِه، فحمل عليهم، فأَصابتْه آجُرّةٌ في مَفْرَِقِهِ حتى فلقتْ رأسَهُ، فوقف قائمًا وهو يقولُ (?) :
وَلَسْنَا عَلَى الأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا ... وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا تَقْطُرُ الدَِّمَا
قال: ثم وقع، فأكبَّ عليه مُواليَانِ (?) له وهما يقولان (?) :
العَبْدُ يَحْمِي رَبَّهُ وَيَحْتَمِي
قال: ثم سِيرَ إليه فحُزَّ رأسُهُ.