بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين أما بعد
نبذة عن حياة الشيخ
نريد من الشيخ نبذة عن كيفية طلبه للعلم؟
جزى الله من كتبه ورجى ثوابه، وأخشى أن أثبّط طلاب العلم، وتكونون كالمستجير من الرمضاء في النار.
والحديث عن النفس محرج؛ لكن على العموم نذكر بعض الشيء وأسأل الله العظيم ألا يؤاخذني في الآخرة على ملء مادة الشريط بمثل هذه الأخبار، ولكن حسبنا الله ونعم الوكيل.
أما عن طلبي للعلم، فأسأل الله أن يجزي الوالد عني كل خير، وأحمد الله-تبارك وتعالى- أن هيأه لي وسخره لي، وما كان العبد ليصيب ذلك لولا فضل الله.
كان -رحمه الله- حريصاً إلى أخذنا إلى مجالسه في الحرم، وحضور درسه في البيت، وكان يأخذني منذ الصغر معه لدرسه بالحرم، حتى أنني ربما أنام - من صغري - في حجره في الدرس؛ لأنه كان يدرّس بعد الفروض كلها، إلا العصر أحياناً يكون عنده درس في البيت، فلما بلغت الخامسة عشرة، أمرني أن أجلس بين يديه وأن أقرأ عليه دروس الحرم، فابتدأت معه في سنن الترمذي، وتعرفون بداية مثلي في
جمع من الناس في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولكنه أراد أن يشحذ همتي، وكان يحسن الظن فيّ، أسأل الله العظيم ألا يخيب ظنه فيّ.
فابتدأت بقراءة سنن الترمذي، ثم الموطأ، وختمته عليه، ثم سنن ابن ماجة، وتوفي ولم أكمله عليه، وأسأل الله أن يكتب له أجر إكماله. هذا بالنسبة للدرس الأول بعد المغرب.
ثم يأتي طالب ويقرأ عليه درس في اللغة، ثم طالب يقرأ عليه درساً في الفقه، وكنت أحضر معه.
وبعد العشاء كنت أقرأ عليه صحيح مسلم، حتى ختمه، وابتدأ بالختمة الثانية، وتوفي في آخرها، ومن غريب ما يذكر أنه توفي عند باب فضل الموت والدفن في المدينة.
وأذكر أنه في آخر هذا الدرس دعا، ولم تكن عادته الدعاء في هذا الموضع، وقد قرأت عليه هذا الحديث من البخاري ومسلم قرابة أربعة مرات، ما أذكر أنه دعا إلا في آخر مجلس من حياته، وكان صحيحاً ليس به بأس، فبعد أنه ذكر الفضل في الموت في المدينة وأقوال الصحابة، قال: وأسأل الله ألا يحرمنا ذلك، فأمن الحاضرون، وكان تأمينهم ملفت للنظر كتأمين المصلين في الحرم في الصلاة من كثرتهم.
ثم في الفجر كان يقرأ حتى تطلع الشمس، وأما بعد صلاة الظهر فكنت أقرأ عليه صحيح البخاري حتى ختمته، ثم ابتدأتُ قراءة ثانية، وتوفي ولم أكملها عليه.
وأما بالنسبة لقراءتي الخاصة عليه، فقرأت عليه في الفقه متن الرسالة حتى أكملته، وشيئاً كثيراً من مسائل كتاب بداية المجتهد، وكنت أحررها، وكان -رحمه الله- واسع الباع في علم الخلاف، إلا أنه من ورعه كان لا يرجح.
وأما بالنسبة لعلم الأصول فقرأت عليه، لكن كان -رحمه الله- لا يحب كثرة الجدل والمنطق التي يقوم علم الأصول، فكان إذا دخلت معه في المنطق يقول: قم، يطردني؛ لأنه كان يرى تحريمه وهو قول لبعض العلماء.
وإن كان اختيار بعض المحققين ومنهم شيخ الإسلام التفصيل كما أشار إلى ذلك الناظم بقوله:
وابن الصلاح والنّواوي حَرّمَا ** وقال قومٌ ينبغي أن يُعْلَمَا
والقولة المشهورة الصحيحةْ ** جوازه لكامل القريهْ
ممارسِ السنة والكتابِ ** ليهتدي بها إلى الصوابِ
المقصود أن أُدلّل على أني ما أستوعب معه جانب الأصول من ناحية النطق والخلافات، وأتممته على بعض المشايخ الذين كان لهم باع فيه، وأسأل أن يكون فيها تعويض لما لم أقرأه على الوالد.
أما المصطلح فقرأت عليه بعض المنظومات، منها البيقونية والطلعة، وقرأت عليه تدريب الراوي.
والسيرة كان له درس في رمضان فيه البداية والنهاية، وكان في التاريخ شيء عجيب، حتى إن الشيخ محمد العثيمين يقول: كان والدك يحفظ البداية والنهاية.
وكان له باع في علم الأنساب، والحقيقة أنني قصّرت فيه ولم آخذه عنه، ويعلم الله ما كان يمنعني منه إلا خشية أن الإنسان يأتي ويقول: هذه القبيلة تنتمي إلى كذا، فيتحمل أوزار أنساب أمم هو في عافية منه، لكن الحمد الله، في الفقه والحديث والعلوم التي أخذتها عليه غناء عن غيرها.
http://www.shankeety.com/HisLife.html
---------------
بواسطة العضو عبد الله الخميس
صور من حياة شيخنا العلامة الزاهد: محمّد المختار الشنقيطي..منقول
للأمانة العلمية الموضوع منقول منتدى الساحات
تبتّلٌ في محرابِ شيخِنا العلاّمةِ الزاهدِ: مُحمّدِ بنِ محمّدٍ المُختارِ الشنقيطيِّ
في زحمةِ هذهِ الأحداثِ المتلاطمةِ، وما تمخّضَ عنها من المواضيع ِ الفاترةِ، وفي خِضمِّ التصنيفاتِ الجائرةِ، والمهاتراتِ البائسةِ، تنكّبتْ بالكثير ِ من المنتدياتِ الأحوالُ، وتتابعتْ عليها وعلى كُتّابِها الأهوالُ، ولجَّ الكثيرُ من أهلِها في الخلافِ، وأصرّوا على العِنادِ، وصارتِ الكتابة ُ فيها - إلا قليلاً - نوعاً من العبثِ وضرباً من الهذيان ِ، وإلى المجون ِ والتهريج ِ أقربَ منها إلى التأصيل ِ والتقرير ِ، ولم نعُدْ نرى فيها إلا هجوماً وتدابراً، كأنّنا في معركةٍ أو نِزال ٍ.
أقولُ هذا ولا أزكّي نفسي، أو أستثنيها من هذا، فأنا منكم، إن خيراً فخيراً، أو شرّاً فشرّاً، وقاتلَ اللهُ دُريدَ بنَ الصمّةِ، إذ سنَّ الموتَ مع الجماعةِ ولو على حالةٍ لا تسرُّ، عندما جعلَ رُشدهُ من رُشدِ غزيّة َ - وهي قومهُ -، وغوايتُهُ من غوايتِها، وصارَ هذا من السُنن ِ التي تزيدُها الأيّامُ ثباتاً، مع أنّها طبعٌ ذميمٌ، وخلقٌ سيءٌ.
هذه الظِلالُ القاتمة ُ من الحال ِ المرير ِ الذي نعيشهُ، تتطلّبُ منّا وقفة ً نُراجعُ فيها النفسَ، وواحة ً نتفيّأ في ظلالِها الأنسَ، ونجدُ في مغانيها الرّاحة َ، وفي أعطافِها الدعة َ، وإذا استمرأنا وضعنا المُخزي، فنحنُ على أعتابِ كارثةٍ فكريّةٍ كُبرى، فما دامَ الحالُ يُراوحُ في مكانهِ، بينَ قدح ٍ سافر ٍ يكشفُ مخبوءَ النيّةِ السيئةِ، وبينَ تصنيفٍ ظالم ٍ يفضحُ خواءَ النفس ِ من الإنصافِِ، والقلمُ يُبرى ليُكتبَ بهِ ما لا يصلحُ أن يكونَ صحيفة ً على حائطٍ في مدرسةٍ للصبيان ِ، فإنَّ استصلاحَ الحال ِ وتقويمهُ يحتاجُ إلى زمن ٍ فسيح ٍ، ونفوس ٍ صابرةٍ، وهمم ٍ مشحوذةٍ، ولا يلوحُ في الأفقِ دونَ ذلكَ إلا خرطُ القتادِ، وسفُّ الرّمادِ، والحمدُ للهِ على كلِّ حال ٍ.
في طريق ِ الإصلاح ِ للقلم ِ، والتهيئةِ للفكر ِ، والدُربةِ للعقل ِ، هذهِ مادّة ٌ خاصّة ٌ عن شيخِنا العلاّمةِ العابدِ الزاهدِ: مُحمّدِ بن ِ مُحمّدٍ المختار ِ الشنقيطيِّ، أسعدَ اللهُ أيّامهُ، وأعلى قدرهُ ومنزلتهُ، أبثّهُا بينَ يديكم لتكونَ كالغيثِ الذي ينهمرُ فيروي الأرضَ القفرَ اليبابَ، وكالنّسيم ِ العليل ِ يبعثُ النّشاطَ في النّفوس ِ الحالمةِ، وكالوردِ العبق ِ الفوّاح ِ في وسطِ القيظِ المُلهبِ يُبهجُ المُهجَ فتنتعشُ وتطربُ، جمعتُها من خلاصةِ ما سمعتهُ من طلاّبهِ، أو وقفتُ عليهِ مُعاينة ً، لعلَّ اللهَ أن يُبعثَ بها الهِممَ من مرقدِها.
هو شيخُنا الفقيهُ المُفسّرُ الأصوليُّ: أبو عبدِ اللهِ مُحمدُ بنُ محمّد المختار ِ بنِ أحمدَ مزيد الجكنيُّ الشنقيطيُّ، والدهُ رجلٌ من أهل ِ العلم ِ الكِبار ِ، درّسَ - أعني والدهُ - في المدينةِ النبويّةِ - شرّفها اللهُ - وفي جُدّة َ - حرسها اللهُ -، وكانَ عالماً فاضلاً من سراةِ الشناقيطِ، سليل ِ أرومةٍ من ذوي الشرفِ والوجاهةِ، ومن أهل ِ الفضل ِ فيهم، وهو ينتسبُ - كما حدّثني قريبٌ للشيخ ِ - إلى الإمام ِ الكبير ِ: المختار ِ بن ِ بونة َ الجكنيِّ - جادَ اللهُ بالرّحمةِ مثواهُ -، أحدِ كِبار ِ العلماءِ في بلادِ شنقيطَ، توفّيَ قديماً، ولهُ مصنّفاتٌ عدّة ٌ منها: طرّة ُ الألفيّةِ، والاحمرارُ، وهي من عجائبِ ما ألّفَ في علم ِ العربيّةِ، أكملَ بهما ألفية َ بن ِ مالكٍ ووشّحها بحاشيةٍ كاشفةٍ لمعانيها، ولهُ قصّة ٌ عجيبة ٌ تدلُّ على كرامةٍ من اللهِ لهُ - بعدَ أن ِ افترى عليهِ بعضُ أهل ِ عصرهِ ونابذوهُ حسداً وبغياً -، حدثتْ في ساعةِ وفاتِهِ، حدّثني بها غيرُ واحدٍ من أهل ِ العلم ِ ومنهم شيخُنا مُحمّدٌ، ولذكرِها موضعٌ آخرُ.
ومن شعرهِ - أي ابن ِ بونة َ - الذي يفخرُ بهِ - وهي قصيدة ٌ مشهورة ٌ - قولهُ:
نحنُ ركبٌ من الأشرافِ مُنتظمٌ ********* أجلُّ ذا العصر ِ قدراً دونَ أدنانا
قد اتخذنا ظهورَ العيس ِ مدرسة ً ********* بها نُبيّنُ دينَ اللهِ تِبيانا
ومن أرادَ الوقوفَ على ترجمتهِ، فلْيُراجعْ كِتابَ " الوسيطِ في تراجم ِ أدباءِ شنقيطَ "، وهو مطبوعٌ مُتداولٌ.
ومن عجائبِ ما يُذكرُ عن والدهِ، ما حدّثني بهِ شيخي مُحمّدٌ نقلاً عن شيخِنا الإمام ِ: مُحمّدٍ العُثيمين ِ - برّدَ الله مضجعهُ - أنَّ والدهُ كانَ يحفظُ كتابَ " البدايةِ والنهايةِ " للإمام ِ ابن ِ كثير ٍ - رحمهُ اللهُ - كاملاً، وقد كرّرَ شيخُنا نقلَ هذا الكلام ِ غيرَ مرّةً، وأخبرني الشيخُ أنَّ والدهُ كانَ من كِبارِ الضابطينِ لعلمِ التأريخ ِ والنّسبِ، وذكرَ شيئاً من ذلكَ أيضاً العلاّمةُ: بكرُ بنُ عبدِ اللهِ أبو زيدٍ - شفاهُ اللهُ ومتّعهُ بالعافيةِ -، في كتابهِ " طبقاتُ النسّابينَ " وغيرهُ.
ومن فضائلهِ - أعني والدهُ - جلَدهُ وصبرهُ، فقد أوتيَ صبراً عظيماً على ما ابتلاهُ اللهُ بهِ من الأمراض ِ وتقلّبِ الأحوال ِ، وبقدر ِ ما كانَ يعظمُ بهِ البلاءُ ويشتدُّ عليهِ الكربُ، كانَ يزدادُ في الثباتِ صبراً واحتساباً، من ذلكَ أنّهُ كانَ لا يكرهُ البنج والمخدّرَ في الجراحةِ، فحصلَ عليهِ حادثٌ اقتضى جراحة ً فامتنعَ من قبول ِ البنج ِ، وأجريتْ لهُ العمليّة ُ وخيطتْ جلدة ُ رأسهُ وهو في كامل ِ وعيهِ، ولم يزدْ على أنْ كانَ يذكرُ اللهَ تعالى، ولهُ في هذا أخبارٌ عجيبة ٌ، ذكرها شيخُنا في دروسِهِ ومحاضراتهِ، وأتى على شيءٍ منها العلاّمةُ: مُحمّدٌ المجذوبُ - رحمهُ اللهُ - في كتابهِ " علماءُ ومفكّرونَ عرفتهم "، في جزءهِ الثالثِ، فلْيُراجعْهُ من أرادَ الوقوفَ على ذلكَ.
وُلدَ شيخُنا في المدينةِ النبويّةِ سنةَ 1381 هـ، كما حدّثني بذلكَ، ودرسَ فيها دراستهُ النظاميّةَ، وأكملَ الدراسةَ المتوسّطةَ والثانويّةَ في معاهدِ الجامعةِ الإسلاميّةِ التابعةِ لها، ثمَّ أكملَ دراستهُ الجامعيّة َ في الجامعةِ الإسلاميّةِ، في كلّيةِ الشريعةِ، وتخرّجَ منها، ثُمَّ عُيّنَ بها معيداً، وحضّرَ رسالتهُ الماجستيرَ فيها، وكانَ عنوانُ رسالتهِ " القدحُ في البيّنةِ في القضاءِ "، ولم تطبعْ بعدُ، ثُمَّ حضّرَ رسالتهُ في الدكتوراه، وكانَ ينوي ابتداءً أن تكونَ في تحقيق ِ جزءٍ من كتابِ الإمام ِ ابن ِ عبدِ البرِّ - رحمهُ اللهُ - " الاستذكارُ "، ثمَّ عدلَ بعدَ مشورةٍ لبعض ِ مشايخهِ إلى أن تكونَ رسالتهُ في الجراحةِ وأحكامِها، فاختارَ ذلكَ الموضوعَ، وكانتْ أطروحتهُ بعنوان ِ " أحكامُ الجراحةِ الطبيّةِ والآثارُ المُترتبة ُ عليها "، وقد أجيزتْ بمرتبةِ الشرفِ الأولى، مع التوصيةِ بالطبع ِ، وطبعتْ مراراً، وأخذَ شيخُنا عليها جائزة َ المدينةِ المنوّرةِ للبحثِ العلميِّ.
هذهُ نبذة ٌ يسيرةٌ عن مولدِ الشيخ ِ ودراستهِ وشهاداتِهِ.
أمّا عن علمهِ وفضلهِ وديانتهِ، فهذا أمرٌ علمهُ جميعُ من عرفَ الشيخَ أو بلغهُ خبرهُ، واستقرَّ في نفوسهم، لما سمعوهُ من علمهِ ووقفوا عليهِ من فضلهِ وآثار ِ صلاحهِ، فالشيخُ لهُ منظرٌ يُنبئُ عن مخبرهِ، فلا يراهُ أحدٌ إلا ويذكرُ اللهَ تعالى، فوجههُ وضيءٌ، طلقُ المُحيّا، مبتسمُ الثغر ِ، ناتئُ الجبهةِ وبها أثرٌ للسجودِ، وأسنانهُ بها فلجة ٌ زيّنتْ طلعتهُ، وسيما الصلاح ِ وآثارُ الهُدى تتقاطرُ من حال ِ الشيخ ِ وهديهِ وسمتهِ.
حينَ الحديثِ عن علمهِ ووفرتهِ، فإنَّ الأمرَ لا يحتاجُ إلى كبير ِ برهان ٍ أو تأكيدٍ، فمن سمِعَ دروسَ الشيخ ِ أو محاضراتِهِ، علِمَ حقّاً غزارة َ محفوظهِ، ودقّة َ فهمهِ، وكثرة َ اطّلاعهِ، وسعة َ مواردهِ، فقد درسَ الشيخُ الفقهَ والحديثَ والتفسيرَ على والدهِ مِراراً، ومن جملةِ ما قرأهُ: الكتبَ الستّة َ وتفسيرَ القرءان ِ مِراراً، إضافة ً إلى عشراتِ المتون ِ في الفقهِ وأصولهِ وأصول ِ الحديثِ والعقيدةِ وغيرِها، ولهُ دِراية ٌ عجيبة ٌ بمذاهبِ الفقهاءِ وأقوالِهم، فهو يستحضرُ كِتابَ " بدايةِ المُجتهدِ ونهايةِ المُقتصدِ " لابن ِ رُشدٍ الحفيدِ، ولا تكادُ تمرُّ مسألة ٌ إلا ويذكرُ فيها أقوالَ أهل ِ العلم ِ ومذاهبَهم وأدلّتهم، ثُمَّ لا يكتفي بذلكَ فحسب، وإنّما يُرصّعُ البحثَ بالترجيح ِ والموازنةِ بينَ الأقوال ِ، بطريقةٍ تدلُّ على فقه النفس ِ، وشيخُنا وإنْ كانَ على طريقةِ المالكيّةِ في التقرير ِ والتفريع ِ، إلا أنّهُ لا يعتمدُ إلا ما صحَّ بهِ الدليلُ، وترجّحَ لهُ بموجبِ المقارنةِ بينَ الأقوال ِ، وهو في دروسهِ يُلقي بحسبِ ما يتهيأ لهُ، فقليلاً ما يُعدُّ أو يُراجعُ للدرس ِ، وإنّما يأتي إلى مجلسهِ ويُقرأ عليه، فينطلقُ كالسيل ِ الهادر ِ، ولا يُعرفُ انتهاءِ الدرس ِ إلا بسكوتهِ.
وطريقتهُ في التدريس ِ كطريقةِ أصحابِ المطوّلاتِ من كُتبِ الفقهِ، إذ يذكرُ المسألة َ وفروعها، ويُطيلُ النفسَ فيها، فينتظمُ درسهُ أبوابَ الفقهِ أصولاً وفروعاً، ويذكرُ في كلِّ مسألةٍ أقوالَ أهل ِ العلم ِ فيها، ويوردُ أدلّتهم وافرة ً تامّة ً، ثمَّ يذكرُ أجوبةٍ كلٍّ، حتّى يصلَ إلى ما يختارهُ ويُرجّحهُ، فيذكرُ وجهَ اختيارهِ، ويُجيبُ على أدلّةِ الآخرينَ، كلُّ ذلكَ صارَ طبعاً فيهِ وعادة ً، فلا يتكلّفُ شيئاً في درسهِ البتّة َ.
وقد توفيَ والدُ شيخِنا في سنةِ 1406 هـ، ولشيخِنا من العمر ِ 25 عاماً، وحينَ وفاتهِ أجازهُ بالفُتيا والتدريس ِ، وكان ابتداءُ شيخِنا بالقراءةِ على والدهِ وعمرُه عشرُ سنواتٍ، كما أخبرَ بذلكَ في دروسهِ.
وشيخُنا كثيرُ القراءةِ والمطالعةِ، ولهُ عناية ٌ خاصّة ٌ بالكتبِ ومعرفة ٌ بها، ومكتبتهُ كبيرة ٌ، ورثَ أكثرَها عن أبيهِ، فيها نفائسُ الطبعاتِ وأندرُها، وقد حدّثني صاحبٌ من طلبةِ العلم ِ، أنّهُ تناقشَ مع شيخِنا في مسألةٍ، فذكرَ صاحبُنا للشيخ ِ أنَّ ابنَ تيميّة َ يرى رأيهُ، فقالَ شيخُنا: لقد قرأتُ الفتاوى ثلاث مرّاتٍ، ولم يمرَّ عليَّ هذا الكلامُ! ، فإذا كانتِ الفتاوى قرأها ثلاث مرّاتٍ، فكيفَ يكونُ شأنُ غيرها من الكتبِ والرسائل ِ؟ ، ومن عجيبِ ما وقعَ لي معهُ أنّي مرّة ً أتيتُهُ فرِحاً أريدُ إلزامهُ بأمر ٍ ما في مسألةٍ فقهيّةٍ، فذكرتُ لهُ وجهها، فقالَ وهو يبتسمُ ابتسامة َ القرير ِ: انظرِ الجوابَ عنها في كتابِ " شرح ِ مُختصر ِ الخرقيِّ " للإمام ِ الزركشيِّ، وكانَ الكتابُ حديثَ الطباعةِ، فعجبتُ من سرعةِ قراءةِ الشيخ ِ للكتابِ، بلهَ وقوفهُ عليهِ! .
كما أنَّ لشيخِنا جلداً وصبراً ومُجاهدةً على بثِّ العلم ِ ونشرهِ، وذلك أنَّهُ كانتْ لهُ ثلاثُ مجالسَ يُقرئُ فيها الفقهَ، أحدُها بجُدّةَ والأخرى بمكّة َ والثالثة َ بالمدينةِ، وكانَ يأتي هذهِ الدروسَ برّاً بسيّارتهِ ولوحدهِ، ولا يكادُ يبيتُ في جُدّة َ إلا قليلاً، ودرسهُ في مكّة َ يوم الثلاثاءِ في شرح ِ كتابِ " زادِ المُستقنِع " فإذا قضى منهُ ربّما سافرَ إلى المدينةِ، ويعودُ في الغدِ إلى جُدّةَ ليُلقي فيها درسهُ في شرح ِ كتابِ " سُنن ِ الترمذيِّ "، فإذا فرغَ من درسهِ وانتهى سافرَ إلى المدينةِ مرّة ً أخرى، لأنَّ لديهِ درساً في المسجدِ النبويِّ يومَ الخميس ِ في شرح ِ كتابِ " عمدةِ الأحكام ِ "، وهكذا حياتهُ، سفرٌ ونصبٌ في سبيل ِ العلم ِ ونشرهِ، على ما يعانيهِ من المرض ِ واعتلال ِ الصحّةِ، وقلّما تجِدُ معهُ رفيقاً في السفر ِ، وذلكَ أنّهُ لا يُحبُّ أن يشقَّ على أحدٍ من طلاّبهِ أو رِفاقهِ، فإن حصلَ وسافرَ معهُ أحدُهم، أخذَ منهُ العهدَ على أن يكونَ الشيخُ هو صاحبَ النفقةِ والزادِ، وأن يكونَ الآخرُ هو الأميرَ، فإن رضيَ بذلكَ فبها ونعمتْ، وإلا فإنَّ عذرَ الشيخ ِ بيّنٌ وواضحٌ في تركهِ.
وهذا يقودُنا للحديثِ عن كرم ِ الشيخ ِ وسخاءهِ، وواللهِ - الذي لا إلهَ إلا هوَ - أنّي لم رجلاً أكرمَ ولا أسخى ولا أجودَ من شيخِنا:
لا تطلبنَّ كريماً بعدَ رؤيتهِ! ********** إنَّ الكِرامَ بأسخاهم يداً خُتموا
وقد صحبتُ النّاسَ ورأيتُ غنيّهم وفقيرُهم وعالمهم وجاهلهم وشريفهم ووضيعهم، ولكنّي لم أرَ رجلاً لا يرى المالَ شيئاً، ولا يُبالي بهِ، كشيخِنا، فقد كانَ نفّاحَ اليدِ، كثيرَ الصدقةِ، لا يردُّ سائلاً، ولا ينظرُ فيما يخرجُ من جيبهِ من مال ٍ، بل يمدُّ يدهُ فإن خرجَ الرّيالُ وهبهُ، أو خرجتِ الخمسمائة ُ وهبها، كلّها عندهُ سواءٌ، وأصحابُ الحاجةِ يقصدونَ إلى الشيخ ِ ويتصدّونَ لهُ، لعلمهِم بسخاءِ يدهِ وطلاقةِ وجههِ، ولهُ صدقاتٌ معروفةٌ مُستمرّة ٌ، وصلة ٌ للغرباءِ، ووصلٌ بالأرحام ِ، وكنتُ إذا زرتهُ أكرمني إكراماً عظيماً وبالغَ في ذلكَ، وما أتيتهُ إلا وكنتُ في بيتهِ بمنزلتهِ فيهِ، أجلسُ وأنا ربُّ الدار ِ، وهو يخدمُ ويقومُ ويأتي بنفسهِ، وربّما أعانهُ بعضُ إخوتهِ، ولا تكادُ تزورُ الشيخَ إلا وتشعرُ ذاتَ الشعور ِ الذي شعرتُهُ أنا، فهو مُتهيئٌ للجودِ والكرم ِ بالفطرةِ.
وفي بيعهِ وشراءهِ لا يُماكسُ ولا يترادُّ مع البائع ِ، وإنّما يشتري بنفس ٍ طيّبةٍ، وربّما يزيدُ في السعر ِ، وكنتُ معهُ مرّة ً فوقفَ لتعبئةِ السيّارةِ بالوقودِ، فدفعِ للعامل ِ مُستحقّهِ ولم يأخذ ما تبقّى من المال ِ، بل تركهُ للعامل ِ، وهذه عادة ٌ معروفة ٌ للشيخ ِ، أنّهُ لا يكادُ يستردُّ ما بقيَ لهُ من مال ٍ إلا نادراً، كرماً منهُ وسخاءً، كما أنّهُ إذا قبلَ الهديّة َ كافأ صاحبَها ولا بُدَّ بأحسنَ منها، بل إنّهُ مرّة ً حضرَ مأدبة ً أقامها لهُ رجلٌ قعيدٌ لا يمشي لحادثٍ أصابهُ، فلمّا انتهتِ المأدبة ُ قصدَ الشيخ ُ إلى أحدِ الشبابِ وأعطاهُ مبلغاً وقالَ لهُ: ادفعه إلى صاحبِ المنزل ِ، فلمّا جاءَ الرّجلُ بالمال ِ إلى صاحبِ المنزل ِ، تفاجأ وإذا بهِ يوازي ما دفعهُ على المأدبةِ، وقد حدثني بهذه القصّة ُ صاحبُ الدعوةِ شخصيّاً.
وبلغهُ مرّة ً أنَّ أحدَ طلاّبهِ مرضتْ أمّهُ، فما كانَ من شيخِنا إلا أن أدخلها أحدَ المستشفياتِ الخاصّةِ على نفقتهِ، إلى أن برئتْ، وهو في هذا من عجائبِ الزمان ِ، رعاية ً لحقوق ِ طلاّبهِ وأصفيائهِ، وسؤالاً عنهم، ووقوفاً معهم في حالاتِ العُسر ِ والكربةِ والضيق ِ، ولا أعرفُ رجلاً من طلاّبهِ إلا وللشيخ ِ عليهِ يدٌ أو صنيعة ٌ، يفعلُ ما يفعلُ بنفس ٍ طيبةٍ وصدر ٍ رحبٍ، وواللهِ إنّهُ كانَ يهتزُّ للبذل ِ والعطاءِ والصلةِ كما يهتزُّ الغريبُ بالوصل ِ واللقاءِ، ويهبُ الأعطية َ كأنّما يهبُها لنفسهِ، لا يستكثرُ شيئاً أو يتعاظمُ مالاً.
هذا بالرغم ِ من قلّةِ المال ِ في يده ِ، وعدم ِ اكتراثهِ بطلبهِ، واكتفاءهِ بما يأخذهُ من تدريسهِ بالجامعةِ فقط، فقد كانَ الشيخُ كثيراً ما ينسى راتبهُ في الجامعةِ، ولا يأخذُهُ إلا بعدَ أن يتّصلَ بهِ المُحاسبُ ويذكّرهُ بذلكَ، كما أنّهُ حينَ وُهبَ جائزة َ المدينةِ المنوّرةِ للبحثِ العلميِّ، قامَ وأعلنَ في مُجتمع ِ الحفل ِ أنّهُ تبرّعَ بكامل ِ مبلغ ِ الجائزةِ للجمعيّةِ الخيريّةِ في المدينةِ النبويّةِ، وعندما طبعَ كتبهُ لم يأخذَ عليها أجراً ورفضَ رفضاً تامّاً، وإنّما شرطَ على بائعِها أن تُخفضَ قيمتُها حتّى يتمكّنَ طلاّبُ العلم ِ من شراءه، مع أنّهُ كتابهُ راجَ رواجاً عظيماً، وطُبعَ أكثرَ من خمس ِ طبعاتٍ، كما أنّهُ مؤخراً طبعَ ما بقيَ من أجزاءِ كتابِ والدهِ، وقامَ بتوزيعهِ مجّاناً.
وهناكَ بيوتاتٌ كثيرة ٌ في المدينةِ النبويّةِ تقومُ على ما يُرسلهُ الشيخ ُ لهم من صدقاتٍ وهباتٍ، وقد وقفتُ على شيءٍ من ذلكَ بنفسي، وسمعتُ من غيري من الإخوةِ طرفاً صالحاً.
وهذا غيضٌ من فيض ٍ في حال ِ الشيخ ِ مع الصدقةِ والصلةِ والبذل ِ، ومن عرفَ الشيخَ علِمَ أنّي قصّرتُ في وصفهِ، وأمسكتُ عن كثير ٍ من حالهِ فيهِ، خشية َ أن لا أنسبَ إلى المجازفةِ والمبالغةِ.
ولشيخِنا والدة ٌ يبرُّ بها بِرّاً عظيماً، فهو إنّما يُكثرُ السفرَ إلى المدينةِ ويُقلُّ من المبيتِ خارجَها رِعاية ً لها، وبِرّاً بها، وقد كنتُ في مجلسهِ يوماً بعد صلاةِ المغربِ، فقامَ الشيخُ يُصلّي الراتبة َ، فسمِعتُ صوتاً يُنادي: مُحمّد! مُحمّد! ، فقامَ شيخُنا وقطعَ صلاتهُ وخرجَ، فعلِمتُ أنَّ هذهِ أمّهُ، وقد حدّثني - أعلى اللهُ قدرهُ - أنَّ تركَ الرقية َ والقراءةَ على المرضى بطلبٍ من أمّهِ، فلا تجدُ الشيخَ قارئاً على مريض ٍ أبداً، بِرّاً بأمّهِ وصيانة ً لها، وفي أحدِ دروسهِ حرّجَ باللهِ العظيم ِ أنْ لا يحضرَ دروسهُ رجلٌ عاقٌّ لوالديهِ، أو ممتنعٌ عن برّهم، وقالَ: لولا أنّي لا أريدُ أن أحرجَ أحداً، وإلا لأمرتهم بالخروج ِ الآنَ من الدرس ِ، وإذا تكلّمَ عن برِّ الوالدين ِ خشعتْ جوارحهُ، ورقَّ قلبهُ، ودارتْ الدمعاتُ في عينهِ، وشفّتْ روحهُ، رضيَ اللهُ عنهُ وأعلى قدرهُ.
ويمتدُّ برّهُ ويتسلسلُ ليصلَ إلى أشياخهِ وإخوانهِ من أهل ِ العلم ِ، فلهم عندَ الشيخ ِ منزلة ٌ وقدرٌ عظيمٌ، فلا يكادُ الشيخ ُ في دروسهِ يذكرُ أهلَ العلم ِ إلا عقّبَ على أسماءهم بالترحّم ِ عليهم، والدعاءِ لهم بالرضى عنهم، وهذه من حسناتهِ الكبيرةِ، والتي غرسها في طلاّبهِ وأحياها فيهم، فلا يمرُّ عليهِ اسمُ العالم ِ أو الشيخ ِ إلا ودعا لهُ، وترّحمَ عليهِ، وأمرَ قارئهُ أن يفعلَ ذلكَ، برّاً بهم ومعرفة ً لقدرِهم، فهو يرى أنَّ لهؤلاءِ الأجلّةِ مكانة ً عظيمة ً علينا، فهم أصحابُ الفضل ِ والسابقةِ، ولا بُدَّ أن يُعرفَ فضلُهم، ويُدعى لهم.
والشيخ ُ لا يسمحُ لأحدٍ كائناً من كانَ أن يقعَ في عرض ٍ عالم ٍ بمجلسهِ، أو ينتقصَ منهُ، وأشدُّ ما رأيتُ الشيخَ غاضباً حينُ ينتهشُ عرضُ عالم ٍ، أو يُنالُ منهُ بحضرتهِ، فيغضبُ الشيخ ُ غضبة ً مضريّة ً، ويخرجُ عن طبيعتهِ المعروفةِ بالسماحةِ واللين ِ واليسر ِ، طاعة ً للهِ ولرسولهِ - صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ -، ثمَّ عِرفاناً لحقِّ أهل ِ العلم ِ ولمكانتِهم، وقد كُنتُ بحضرتهِ ومعنا رجلٌ في ضيافةِ الشيخ ِ، وكانَ الرّجلُ يشربُ الشاي، فإذا بهِ يقولُ للشيخ ِ: يا شيخُ! ، ألا ترى أنَّ الشيخَ عبدَ العزيزَ بنَ باز ٍ يحتاجُ إلى إعادةِ نظر ٍ في بعض ِ الفتاوى! ، وقد فهِمَ شيخُنا من حديثِ الرّجل ِ أنّهُ يقصدُ الغضَّ من الإمام ِ بن ِ باز ٍ - نوّرَ اللهُ قبرهُ -، فلم يجدْ شيخُنا بُدّاً من أن أمرَ الرّجلَ بالخروج ِ من بيتهِ، وقالَ لهُ: لا يجمعُني ومتنقّصُّ الشيخ ِ بن ِ باز ٍ سقفٌ، فخرجَ الرّجلُ من بيتِ الشيخ ِ، وحدّثني الشيخُ لاحقاً أنَّ الرجلَ جاءهُ بعد أسبوع ٍ وهو يقولُ: أشهدُكَ يا شيخُ أنّي أتوبُ إلى اللهِ من الكلام ِ في الشيخ ِ بن باز ٍ وغيرهُ من أهل ِ العلم ِ.
والشيخ ُ ابنُ باز ٍ - رحمهُ اللهُ - أحبُّ النّاس ِ إلى قلبهِ من أهل ِ العلم ِ بعدَ والدهِ، وقد قالَ لي مرّة ً: الجامعة ُ الإسلاميّة ُ انتهتْ بعد الشيخ ِ بن ِ باز ٍ، وحينَ جنازةِ الشيخ ِ في مكّة َ - شرفها اللهُ - رآهُ بعضُ الإخوةِ متأثّراً باكياً.
أمّا الغيبة ُ والنميمة ُ والبهتانُ، فهي عندَ شيخِنا من أكبر ِ الكبائر ِ، ولا يسمحُ لأحدٍ أن يغتابَ أحداً أو يغضَّ من قدرهِ مهما كانتِ الدوافعُ والمبرّراتُ، وقد كانَ لهُ مجلسٌ في بيتهِ يومَ الجمعةِ بعدَ صلاةَ العصر ِ كلَّ أسبوع ٍ، يأتي إليهِ طلبة ُ العلم ِ للفائدةِ والمناقشةِ، فكثرَ في مجلسهِ دعاة ُ الفتنةِ، من الذينَ ينتقصونَ العلماءَ، ويُثيرونَ الفتنَ، ويقتاتونَ على التصنيفِ، فما كانَ من شيخِنا إلا أن أغلقَ مجلسهُ، وفضَّ ذلكَ المحفلَ، وشيخُنا يُكثرُ من ذكر ِ قصص ِ العلماءِ في حفظِ اللسان ِ والتصوّن ِ عن الوقيعةِ في الصالحينَ، فقد كانَ هذا دأبُ والدهِ، بل هو دأبُ الصالحينَ جميعاً، أنّهم أملكُ ما يكونون لألسنتهم، فلا يذكرونَ أحداً إلا بالجميل ِ، ويُمسكونَ عن الكلام ِ والتجريح ِ، طاعة ً للهِ وديانة ً وقُربى، على العكس ِ من الكثير ِ من دعاةِ الفتنةِ والسعاةِ بالباطل ِ، الذين جعلوا ألسنتهم ناراً تأكلُ أعراضَ أهل ِ العلم ِ، ومقارضَ تقرضُ في مناقبِهم وتُذيعُ مثالبَهم.
والحديثُ عن عفّةِ اللسان ِ وصيانتهِ عن اللغو ِ، يدعو حتماً للحديثِ عن الورع ِ والتواضع ِ، وهذا من آثار ِ شيخِنا الحميدةِ، أنّهُ ورعٌ متواضعٌ، تشهدُ بذلكَ أفعالهُ وتدلُّ عليهِ آثارهُ، خاصّة ً فيما يتصلُ بالفُتيا ومسائل ِ العلم ِ، فقلَّ أن تُرى لهُ مسألة ٌ يُخالفُ فيها الإجماعَ، أو ينتحي فيها طرائقَ أهل ِ الشذوذِ والتفرّدِ، بل يسلكُ مسالكَ أهل ِ العلم ِ، ولا يحيدُ عنهم، فليستْ للشيخ ِ مسألة ٌ أو فتوى إلا ولهُ فيها سلفٌ وأثرٌ، وقد كانَ كثيراً ما يُسألُ فلا يجيبُ، ويكتفي بقولهِ: اللهُ أعلمُ، أو يُحيلُ على أهل ِ العلم ِ الكِبار ِ، وفي مجالسَ عدّةٍ رأيتُهُ يُحيلُ على شيخِنا ابن ِ باز ٍ - رحمهُ اللهُ ورضيَ عنهُ -، وبعدَ موتهُ سمعتهُ يُحيلُ أكثرَ من مرّةٍ على الشيخ ِ العلاّمةِ المفتي عبدِ العزيز ِ آلَ الشيخ ِ - حفظهُ اللهُ -، وما كانَ يفعلُ ذلكَ عن قلّةِ في علمهِ، أو نقصاً في أهليّتهِ، إنّما يفعلهُ ورعاً وتحوّطاً، وبلغَ من تواضعهِ بينَ يدي أهل ِ العلم ِ، أنّهُ امتنعَ دهراً من إلقاءِ الدروس ِ في بلادِ القصيم ِ، لمكان ِ شيخِنا الإمام ِ ابن ِ عُثيمينَ - رحمهُ اللهُ ورضيَ عنهُ -، وحتّى عندما ألقى محاضرةً هناكَ، امتنعَ من أن يُجيبَ على الأسئلةِ فقهيّةٍ، تواضعاً منهُ، ورِعاية ً لحقِّ الأكابر ِ من العلماءِ، وعندما ألقى درسهُ في مكّة َ بحضرةِ الإمام ِ بن ِ باز ٍ - رحمهُ اللهُ - لم يجلسْ على الكرسيِّ في مكانهِ المعتادِ مرتفعاً، إنّما جلسَ على الأرض ِ، كما يجلسُ الطلاّبُ، وأكملَ درسهُ، ثمَّ أبى عن الإجابةِ على الأسئلةِ، وأحالها على الشيخ ِ ابن ِ باز ٍ - رحمهُ اللهُ -، على حالةٍ من الاعترافِ بحقِّ أهل ِ العلم ِ، وتواضعاً معهم وأدباً، في طريقةٍ نادرةٍ قلَّ أن نجدَ لها نظيراً، في زمن ِ التعالم ِ والتعالي ونفخ ِ الذاتِ وانتشار ِ الأنا! .
أذكرُ مرّة ً أنَّ امرأة ً اتصلتْ عليهِ وأنا بحضرتهِ، ففهمتُ من ردِّ الشيخ ِ أنَّها تسألُ عن أمر ٍ معيّن ٍ، فلمّا قضى الشيخُ جوابهُ، تغيّرتْ نبرة ُ صوتهِ، ثمَّ قالَ لها: يا أختي في اللهِ! ، واللهِ ما أفتيكِ ولا أفتي غيركِ إلا وأنا أتمثّلُ الجنّة َ والنّارَ أمامَ عينيَّ، فإذا أفتيتكِ خُذي فتوايَ واكتفي بها، وكنتُ كثيراً ما أسمعُ منهُ هذا الكلامَ، فرضيَ اللهُ عنهُ ما كانَ أدينهُ للهِ وأخشاهُ! .
وللحديثِ عن عبادةِ الشيخ ِ وتقواهُ وخشيتهُ وقعٌ آخرُ، فقد عُرفُ الشيخُ بخشيتهِ وعِبادتهِ، فهو رجلٌ عامرُ القلبِ بالإيمان ِ - نحسبهُ كذلكَ واللهُ حسيبهُ -، وأثرُ ذلكَ بادٍ على وجههِ وسمتهِ وجوارحهِ، ويعلمُ اللهُ أنّي إذا رأيتُ الشيخُ أشعرُ براحةٍ عظيمةٍ، وتنفرجُ منّي الأساريرُ، وينزاحُ ما يهمّني أو يغمّني من وصبِ الدّنيا ونصبِها، لأنّي لا أراهُ إلا وأرى نوراً أجدُ أثرهُ في ومضاتِهِ، أكادُ أقبسُ منهُ دونَ أن أرى لهُ جذوة ً تمدّهُ ولا أظنُّ مصدرها إلا في صدرهِ، فهو حينَ يدخلُ إلى درسهِ يدخلُ مُطأطأً رأسهُ، متواضعاً للهِ جلَّ وعلا، في هيئةٍ من الإزراءِ بالنفس ِ، والتعظيم ِ للهِ، تكادُ تأخذُ القلوبَ وتأسرُ الألبابَ، وإذا صلّى إماماً فإنَّ لصوتهِ وقعاً على النفوس ِ، فهو يقرأ بخشوع ٍ وتبتلٍّ، تقرأ في ثنايا ترتيلهِ الخشية َ والخوفَ، وتسري إليكَ الهيبة ُ والسكينة ُ، وقد صلّى بنا مرّة ً أحدُ الإخوةِ أماماً وبكى في صلاتهِ، والشيخُ خلفهُ، وكنتُ في خلفِ الصفوفِ، وصوتُ الشيخ ِ وبكاؤهُ يصلُ إلينا في آخر ِ المسجدِ، فدمعتهُ سريعة ُ الوكوفِ، وقلبهُ تغشاهُ رقّة ٌ دوماً، وعندما شرحَ حديثَ غزوةِ الطائفِ، تغيّرَ وجههُ، ونشجَ نشيجاًَ كتمَ معهُ بكاؤهُ وعبرتهُ، إلا أنّهُ لم يتمكّنْ من ذلكَ في محاضرتهِ " واتقوا يوماً تُرجعونَ فيهِ إلى اللهِ "، إذ انفجرَ باكياً في مبتدأها، لأنّه ذكرَ فيها الحشرَ والنشرَ والموتَ، وهذه عادة ُ الشيخ ِ في حديثهِ في الرّقائق ِ، لا يكادُ يُمسكُ عينهُ وقلبهُ، تغشاهُ الرّقة ُ ويعلوهُ الخوفُ والوجلُ، وتستجيبُ عينهُ لداعي ذلكَ، فيقطعُ حديثهِ كثيراً بالبكاءِ والنشيج ِ.
وقد حدّثني صاحبٌ لي أنّهُ طافَ مرّة ً على إثر ِ الشيخ ِ في مكّة َ، في رمضانَ في عشرِها الأواخر ِ، قالَ صاحبي: والشيخُ يبكي بصوتٍ مرتفع ٍ، كنتُ أسمعهُ من خلفِ النّاس ِ، وقد فعلَ ذلكَ في مدّةِ الطوافِ كلّها.
ومن أعجبِ قصصهِ في العبادةِ والتبتّل ِ، ما حدثنيهِ أحدُ طلاّبِ الشيخ ِ أنَّ الشيخَ دعاهم مرّة ً إلى مزرعتهِ في المدينةِ النبويّةِ، وبعدَ انتهاءِ العشاءِ وخروج ِ الشيخ ِ، بقيَ بعضُ الإخوةِ في المزرعةِ، فجاءهم حارسُ المزرعةِ وجلسَ معهم، وحدّثهم عن الشيخ ِ خبراً عجيباً، مفادُهُ أنَّ الشيخَ كانَ يأتي المزرعةَ يوميّاً ويُصلي على أرضِها مباشرةً من بعدِ العشاءِ إلى صلاةِ الفجر ِ، ويبكي ويبتهلُ للهِ ويضرعُ بالدعاءِ ويلهجُ بالثناءِ بينَ يديهِ، قالَ الحارسُ: وقد رأيتهُ كثيراً يُعفّرُ جبهتهُ بالسجودِ في الترابِ وينشجُ نشيجَ الطفلَ ويبكي للهِ تباركَ وتعالى.
وقد سمعتُ هذه القصّة أكثرَ من مرّةٍ، من أكثرَ من مصدر ٍ، وبمثل ِ هذهِ الأخبار ِ والقصص ِ يتبيّنُ للجميع ِ، أنَّ هذه المكانة َ السامية َ للشيخ ِ، والمنزلة َ العالية َ، إنّما بلغها بالعبادةِ والزهدِ والانقطاع ِ إلى اللهِ، وبالعمل ِ الصالح ِ والعلم ِ النافع ِ، إذ أعرضَ عن القيل ِ والقال ِ، وتفرّغَ لبناءِ نفسهِ وإصلاح ِ حالهِ، فآتاهُ اللهُ ثمرة َ ذلكَ في الدّنيا علوّاً في الدرجةِ، ورِفعة ً عندَ الخلق ِ، وما عندَ اللهِ خيرٌ وأبقى بإذن ِ اللهِ.
وبمثل ِ هذهِ الأعمال ِ الصالحةِ والذخائر ِ العظيمةِ، حفِظَ اللهُ شيخَنا في علمهِ ونفسهِ وعقلهِ، وبوّأهُ رُتبة ً عظيمة ً، ووقعَ للشيخ ِ من القصص ِ ما يُؤذنُ أنَّ ذلكَ حفظ ٌ من اللهِ لهُ، وعناية ٌ ربّانية ٌ خاصّة ٌ، فكثيراً ما كانَ الشيخُ يقودُ سيّارتهُ مسافاتٍ طويلة ً وهو نائمٌ، لا يدري عن الطريق ِ، ويستيقظ ُ فجأة ً وهو قريبٌ من أحدِ الحواجز ِ، أو على وشكِ الجنوح ِ إلى جانبِ الطريق ِ، وقد سمعتُ هذا بنفسي من الشيخ ِ، ولم أشكَّ قطُ - حينَ حدّثني بها - أنَّ هذا من حفظِ اللهُ لهُ ورِعايتهِ بهِ، كأنّما يُهيّئهُ لأمر ٍ عظيم ٍ.
ومن أعظم ِ ما يدلُّ على مناقبِ الشيخ ِ ومكانتهِ، قصّة ٌ وقعتْ وانتشرتْ في أوساطِ النّاس ِ في المدينةِ النّبويّةِ، وهي حادثة ٌ معروفة ٌ، مُلخّصُها أنَّ رجلاً - واسمهُ معروفٌ - من هواةِ التصنيفِ والوقوع ِ في الأعراض ِ، لمزَ شيخنا في عرضهِ ووقعَ فيهِ بكلام ٍ بذيءٍ مُستقبح ٍ، لا يجترأ قلمي على ذكرهِ مُخبراً بهِ وآثراً، فكيفَ بي أن أقولهُ مُعتقداً لهُ! ، وروّجَ ذلكَ الأفّاكُ الأثيمُ الكلامَ على الشيخ ِ، ونشرهُ بينَ النّاسَ، فدعا عليهِ شيخُنا، وواللهِ ما مرّتِ الأيّامُ إلا والرّجلُ يُلقى عليهِ القبضُ في قضيّةٍ أخلاقيّةٍ وهي اللواطُ - أجارنا اللهُ وإيّاكم منها -، بعدَ أن افترى على شيخِنا وقذفهُ في عرضهِ، وهكذا ينتصرُ اللهُ لأوليائهِ، ويذودُ عنهم.
ولعلَّ هذا يكونُ ذكرى لإخوانِنا الذين ابتلوا بالوقيعةِ في أعراض ِ أهل ِ العلم ِ، أن يستلهموا منها العظة َ والعبرة َ، قبلَ أن يقعوا في شركِ الفضيحةِ في الدّنيا، وسوءِ الخاتمةِ عندَ الموتِ.
وللشيخ ِ موقفٌ مُباركٌ في رعايةِ حقِّ الجماعةِ وولاةِ الأمر ِ، فهو يرى طاعتهم والسمعَ لهم، وحينَ وقعتِ الأحداثُ الأخيرة ُ بادرَ باستنكار ِ ذلكَ والتشنيع ِ على فاعلهِ، وحثَّ الشبابَ على لزوم ِ الكتابِ والسنّةِ، وعدم ِ الخروج ِ على ولاةِ الأمر ِ، ودعاهم إلى ضبطِ سلوكِهم وأحوالِهم، وترشيدِ حماسِهم وتهدئةِ فورتِهم، وذكرَ الولاة َ بخير ٍ ودعا لهم بالحفظِ والصلاح ِ، وهذا هو موقفُ أهل ِ الحكمةِ والعدل ِ في الأحداثِ الجسام ِ، أن يكونوا مع الجماعةِ، ويقفوا في صفِّ الأمّةِ، وأن لا يشقّوا عصا الطاعةِ أو يُحدثوا ثلمة ً يلِجُ منها الأعداءُ.
وفي ذاتِ الوقتِ كانَ شيخُنا من أشدِّ النّاس ِ تأثّراً بحال ِ إخوانهِ من المسلمينَ في الخارج ِ، وقد سمعتهُ كثيراً ما يقنتُ لهم، ويُذكّرُ بحقهم، بل كانَ يبكي بكاءً شديداً عندما تقعُ حادثة ٌ للمسلمينَ أو مظلمة ٌ، ويدعو النّاسَ للدعاءِ لهم، والصدقةِ عليهم، والقنوتِ في الصلواتِ، فهو رجلٌ يحملُ همَّ إخوانهِ، ولا تكادُ تمرُّ حادثة ٌ إلا وذكّرَ بما وقعَ لهم، وقنتَ لهم وبكى تأثّراً بحالهم ومصابِهم.
وأختمُ بأمرين ِ:
أوّلهما: أمرُ الشيخ ِ بالمعروفِ ونهيهُ عن المنكر ِ، فهو آمرٌ بالمعروفِ ناهٍ عن المنكر ٍ، يقومُ بحقِّ اللهِ في هذا الأمر ِ، ومن ذلكَ أنَّ مجموعة ً من الرافضةِ - عليهم من اللهِ ما يستحقّونَ - كانوا قد تحلّقوا وقوفاً في المسجدِ النبويِّ الشريفِ، وأوعزوا إلى أشقاهم أن يقومَ ويُشعلَ سيجارة ً ويُدخّنَ في باحةِ الحرم ِ، وهم حولهُ يحوطونهُ ويحرسونهُ، قالَ شيخُنا: فلم أتمالكْ نفسي، ودخلتُ في وسطهم وصفعتُ الرافضيَّ مُخمّساً - هكذا نطقها الشيخُ - على وجههِ، فخنسَ الرافضيُّ، وولّى قومهُ الدبرَ على حالةٍ من الخزي والعار ِ.
وشيخُنا يأمرُ من يصلّي وراءَ الرافضةِ بأن يُعيدَ صلاتهُ، ولفتَ في حديثهِ عنهم - أخزاهم اللهُ - إلى أمر ٍ مهمٍّ، وهو أنَّ الرّافضة َ قليلاً ما يتوبونَ، يقولُ شيخُنا: ولعلَّ اللهَ غارَ على أعراض ِ صحابةِ رسولهِ - صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ - فقلَّ أن يوفّقَ أحدهم لتوبةٍ أو تغيير ٍ لمنهجهِ الخبيثِ.
الثاني: لُطفُ الشيخ ِ وظرفهُ وسعة ُ أخلاقهِ، وهذا أمرٌ يعرفهُ عن الشيخ ِ من لزمهِ أو صحِبهُ، أنّهُ فكِهُ الخلق ِ، لطيفُ الرّوح ِ، ليّنُ العريكةِ، كثيرُ البشر ِ والمُلاطفةِ والمُداعبةِ لطلاّبهِ وأصدقاءهِ، أذكرُ مرّة ً أنّهُ دعا بدعوةٍ في محفل ٍ بأن يقبضهُ اللهُ ويُميتهُ في المدينةِ النبويّةِ، فجلجلَ المجلسَ وصدحوا قائلينَ: آمين! ، فقلتُ بصوتٍ مرتفع ٍ: اللهمَّ أجمعينَ! ، فقالَ شيخُنا وهو يبتسمُ: لا ما يصير كذا! ، بعدين يصير زحمة.
ومرّة ً كنّا في أحدِ القرى معهُ، وفي المجلس ِ أخلاطٌ من جُفاةِ الأعرابِ، وقليلي العلم ِ، ولا يعرفونَ حقَّ أهل ِ العلم ِ أو طريقة َ مُخاطبتهِم، فبادرَ أحدُهم شيخنا بالسؤال ِ وقالَ: يا شيخ لو فيه رجلين أحدهم مزيّن لحيّته والثاني مدخّن، مين يصلّي إمام؟! ، قالَ شيخُنا وهو يبتسمُ: صلّ إنت، أنت مو مزيّن لحيتك ولا شارب للدخان، فضحك المجلسُ، وكانَ غرضُ الشيخ ِ أن يلفتَ النّاسَ إلى السؤال ِ عن مسائلَ ذاتِ فائدةٍ مباشرةٍ، ولهذا ابتدرتُ المجلسَ وسألتُ سؤالاً يُهمُّ الجميعَ، فنظرَ إليَّ الشيخُ وقالَ: إيه هذي هي الأسئلة اللي نبغاها.
ومن رأى الشيخ َ علِمَ أنّهُ صاحبُ ابتسامةٍ لا تكادُ تُفارقُ وجههُ، حتّى في أحلكِ الظروفِ، وأشدِّ المواضع ِ، فلا تراهُ إلا وهو يهشُّ ويبشُّ، ويبتسمُ ويُبدي لكَ السرورَ، وإذا سلمتَ عليهِ فإنّكَ تخرجُ من وراءِ ذلكَ بشعور ٍ أجمعَ عليهِ من يعرفُ الشيخ َ أو يسلّمُ عليهِ: وهو أنّهُ يعرفكَ وبينكما صُحبة ٌ! ، فلا ينزعُ يداً، أو يكفُّ عن ترحيبٍ، أو يقطعُ ابتسامة ً، حتّى تفعلَ أنتَ ذلكَ، وهذا من عظيم ِ خلقهِ وسعةِ صدرهِ.
على أنَّ فيهِ حدّة ً تكادُ تُقرأ من كلامهِ وأسلوبهِ، فينثالُ من جنباتِ بعض ِ حديثهِ وهجُ الحدّةِ، وزفرة ُ القوّةِ، إلا أنّهُ يكسرُ ذلكَ كلّهُ بالحلم ِ، ويردُّ نفسهُ إلى طبيعةِ التروّي.
كما أنّهُ تامُّ المروءةِ وافرُ الخلق ِ، لا يوجدُ عندهُ ما يقدحُ في مروءةٍ أو يشينُ في طبع ٍ، وإنّما هو العدلُ والوسطُ في الخلق ِ والطبيعةِ، مع عفافٍ تامٍّ، وتصوّن ٍ عظيم ٍ، وغيبةٍ مأمونةٍ، وحرص ٍ على أسبابِ السلامةِ، وبُعداً عن البدع ِ والأهواءِ.
وهذهِ الأخلاق ُ الكريمة ُ والشمائلُ الحميدة ُ، جعلتْ طلاّبهُ يحرصونَ كلَّ الحرص ِ على التشبّهِ بهِ، في سمتهِ ودلّهِ وهديهِ وهيئتهِ، ومن حضرَ دروسهُ فسيرى عجباً، من تعظيم ِ الطلبةِ لهُ وتوقيرهُ، وإظهار ِ الإجلال ِ لهُ، والكثيرُ منهم يحرصُ أن يتزيّا على طريقةِ الشيخ ِ، وذلكَ أنّهُ يحرصُ على لبس ِ الغترةِ البيضاءِ، ويحسرُ جبهتهُ، ويجعلُ غترتهُ في الربع ِ الأوّل ِ من طاقيّتهِ، وهذه الطريقة ُ في التزيّي امتثلها طلاّبهُ، وساروا عليها، لقوّةِ ما أثّرهُ الشيخ ُ فيهم، فقد وسِعهم بأخلاقهِ وفضائلهِ، واستحوذ َ على قلوبِهم بشمائلهِ، حتّى صارَ منهم ملءَ السمع ِ والبصر ِ والجوانح ِ، وبمثل ِ هذهِ الكرائم ِ من الأخلاق ِ، والنجائبِ من الخِلال ِ، فاقَ الشيخ ُ أقرانهُ وألجمَ خصومهُ، وصدقَ الشّاعرُ إذ يقولُ:
قاتلْ عدوّكَ بالفضائل ِ إنّها ********** أمضى عليهِ من السّهام ِ النُفّذِ
بقيَ أن أذكرَ لكم أنَّ شيخَنا لم يتزوّجْ بعدُ، وقد ذكرَ سببَ ذلكَ أنّهُ مبتلى ببعض ِ العلل ِ والأمراض ِ، التي تنتابهُ بين حين ٍ وأخرى، فإن قدّرَ اللهُ لهُ وتزوّجَ فهذهِ طريقة ُ أنبياءِ اللهِ ورسلهِ - عليهم صلواتُ اللهِ وسلامهُ -، وإن حالَ بينهُ وبينَ الزواج ِ عرضٌ أو مرضٌ، فكم من إمام ٍ مفوّق ٍ لم يتزوجَ وملأ علمهُ الخافقينَ، كابن ِ تيميّة َ والنووي وغيرِهم - رحمة ُ اللهِ عليهم أجمعينَ -، نسألُ اللهَ أن يكتبَ لشخِنا الشفاءَ العاجلَ، وأن يمدَّ في عمرهِ ويحفظهُ، ويُبقيَهُ ذخراً للإسلام ِ والمُسلمينَ.
هذه قطوفٌ يسيرة ٌ من حال ِ شيخِنا، كتبتُها على عجل ٍ دونَ ترتيبٍ لها أن مراجعةٍ، والذّهنُ مكدودٌ والخاطرُ هائمٌ في أوديةِ الدّنيا، والجسمُ قد لعبَ بهِ البردُ وفتَّ في عظامهِ، لعلَّ اللهَ أن يُحيي بها رُفاتَ الفكر ِ البائدِ، أو رميمَ القلمَ الجانح ِ، فنحنُ بحاجةٍ إلى أمثال ِ هؤلاءِ الأئمّةِ الأعلام ِ، وإلى من يُسدُّ فراغهم، فقد تصرّمَ جيلُ العلماءِ الكبار ِ، وبقيَ منهم طائفة ٌ يسيرة ٌ، ولا ندري ماذا يُحدثُ اللهُ من أمر ٍ، فإن لم نبتدر ِ الغاية َ، ونستبقْ إلى العلياءِ والمجدِ، في العلم ِ والعِبادةِ والصلاح ِ، فإنَّ حالنا ستكونُ مشينة ً، وخاتمة ُ فكرِنا ستكونُ غيرَ سديدةٍ، ولن تُغني عنّا المدائحُ أو الأهاجي، وإنّما هو العلمُ والعملُ، واللهُ المستعانُ.
دمتم بخير ٍ.
أخوكم: فتى.