واضطرب أمر قرطبة باختلاف بني أمية بعد موت أبي عامر محمد بن أبي عامر وابنه، رحل من هذه وهذه من كان فيهما من العلماء والفضلاء من كل طبقة؛ فرارًا من الفتنة؛ فنزل أكثرهم مدينة فاس؛ فهي اليوم على غاية الحضارة، وأهلها في غاية الكَيْس ونهاية الظَّرْف، ولغتهم أفصح اللغات في ذلك الإقليم. وما زلت أسمع المشايخ يدعونها بغداد المغرب, وبحق ما قالوا ذلك؛ فإنه ليس بالمغرب شيء من أنواع الظرف واللباقة في كل معنى إلا وهو منسوب إليها وموجود فيها ومأخوذ منها؛ لا يدفع هذا القول أحد من أهل المغرب. ولم يتخذ المصامدة مدينة مراكش وطنًا ولا جعلوها دار مملكة لأنها خير من مدينة فاس في شيء من الأشياء، ولكن لقرب مراكش من جبال المصامدة وصحراء لمتونة؛ فلهذا السبب كانت مراكش كرسي المملكة؛ وإلا فمدينة فاس أحق بذلك منها. وما أظن في الدنيا مدينة كمدينة فاس، أكثر مرافقَ، وأوسع معايشَ، وأخصب جهاتٍ؛ وذلك أنها مدينة يحفها الماء والشجر من جميع جهاتها، وتتخلل الأنهار أكثر دورها زائدًا على نحو من أربعين عينًا ينغلق عليها أبوابها ويحيط بها سورها. وفي داخلها وتحت سورها نحو من ثلاثمائة طاحونة تطحن بالماء. ولا أعلم بالمغرب مدينة لا تحتاج إلى شيء يُجلب إليها من غيرها -إلا ما كان من العطر الهندي- سوى مدينة فاس هذه؛ فإنها لا تحتاج إلى مدينة في شيء مما تدعو إليه الضرورة، بل هي تُوسع البلاد مرافق وتملؤها خيرًا.

ومن مدينة فاس إلى مدينة مِكْنَاسة الزيتون، يوم تام للمجد؛ ومن مكناسة الزيتون إلى مدينة سلا، أربع مراحل.

ومدينة سلا هذه على ساحل البحر الأعظم المسمى أقيانس، وهي في الجنوب كما ذكرنا، ينصب إليها نهر يسمى وادي الرمان، يصب في البحر الأعظم المذكور.

وقد بنى المصامدة على ساحل هذا البحر مما يلي مراكش مدينة عظيمة، سموها رِبَاط الفَتْح، كان الذي اختطها أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، وأتمها ابنه يعقوب، وبنى فيها مسجدًا عظيمًا قد تقدم ذكره. وقيل: إنهم إنما بنوها بأمر ابن تومرت إياهم بذلك؛ وذلك أنه قال لهم: تبنون مدينة عظيمة على ساحل هذا البحر -يعني البحر الأعظم- ثم يضطرب أمركم وتنتقض عليكم البلاد حتى ما يبقى بأيديكم إلا هذه المدينة؛ ثم يفتح الله عليكم ويجمع كلمتكم ويعود أمركم كما كان! فلهذا سموها رباط الفتح. وبين هذه المدينة وبين سلا العتيقة، النهر المذكور؛ وقد بنوا عليه قنطرة من ألواح وحجارة يعبر الناس عليها حين يَجْزر النهر1، فإذا مَدَّ عبروا في القوارب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015