ثم رجع أمير المؤمنين أبو عبد الله إلى مراكش، وبها اتصل به خبر فتح ميورقة؛ وكان رجوعه إلى مراكش في ذي القعدة من السنة المذكورة.
عبد الرحمن الجزوليّ الثائر
وقد كان قبل هذا في سنة 97، قام بسوس رجل من جَزُولة اسمه عبد الرحمن، يعرف عندهم بما معناه بلسانهم ابن الجزارة, فدعا إلى نفسه؛ واجتمع إليه خلق كثير. واشتد خوف الموحدين منه، فلم يزالوا يجهزون إليه العساكر بعد العساكر، وفي كل ذلك يهزمهم؛ إلى أن بعثوا بعثًا من الموحدين والغز وأصناف الجند، بعد أن تقدموا إلى المصامدة والمجاورين للبلاد التي كان فيها؛ وقالوا: إنما يقوى هذا الرجل بتغافلكم عنه، ومسامحتكم إياه، ولو شئتم لم يبق بالبلاد يومًا واحدًا! فتحركوا عند ذلك وأظهروا الحمِيَّة، والتقوا هم وأصحاب عبد الرحمن المذكور -وكان يدعى أبا قصبة- فأسلمته جموعه، وقُتل وسِير برأسه إلى مراكش؛ فكتب إلي بعض إخواني، وهو إذ ذاك صبي صغير كان مع أبيه بسوس -وكان أبوه من العمال، من أهل جزيرة الأندلس من ناحية بلنسية- يخبرني بهذا الفتح قبل وصوله إلي من جهة كتاب الموحدين المتولين له، رسالة أولها:
كُتب من منزل سوس وقد تبلَّج1 فجر الفتح فأسفر، وقال فريق الضلال وشيعته: أين المفر؟ وقد ألقى النصر جِرَانه2، وأعز الله حزبه المؤيد وأعوانه؛ وشرح الحال على غاية الإيجاز؛ لأجل الاستعجال في إنهاء هذه البشائر والانحفاز3، أن الناكثين النابذين للعروة الوثقى، المتمسكين بالسبب الأشقى، حاصرهم الموحدون -أنجدهم الله- أشد الحصار، وقطعوا عنهم مواد المعايش وزَرَافات4 الأنصار؛ ولسان التأييد يتلو علينا بالعشي والإشراق. ما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فَوَاق5. ولحين ما أخذ الموحدون -أنجدهم الله- في حسم دائهم العضال، وجردوا لهم من عزماتهم الصادقة ما هو أمضى من النصال، طاحوا مُجدَّلين بالحضيض6، وملأ جثمانُهم الفضاءَ العريض، وخيب الله ظنونهم الكاذبة وآمالهم،