النفوس هيبة وفي الصدور عظمة، فلا يراه أحد إلا هابه، وعظم أمره؛ وكان شديد الصمت كثير الانقباض؛ إذا انفصل عن مجلس العلم لا يكاد يتكلم بكلمة ...
أخبرني بعض أشياخ تلمسان عن رجل من الصالحين كان معتكفًا معه بمسجد العباد، أنه خرج عليهم ذات ليلة بعدما صلى العتمة، فنظر إليهم وقال: أين فلان؟ لرجل كان يصحبهم؛ فأخبروه أنه مسجون، فقام من وقته ودعا برجل منهم يمشي بين يديه، حتى أتى باب المدينة، فدق على البواب دقًّا عنيفًا، واستفتح؛ فأجابه البواب إلى الفتح بسرعة من غير تلكؤ ولا إبطاء، ولو استفتح أمير البلد لتعذر ذلك عليه؛ ودخل حتى أتى السجن، فابتدر إليه السجانون والحرس يتمسحون به، ونادى: يا فلان! باسم صاحبهم؛ فأجابه؛ فقال: اخرج! فخرج والسجانون ينظرون إليه كأنما أُفرغ عليهم الماء الحار، وخرج بصاحبه حتى أتى المسجد. وكانت هذه عادته في كل ما يريد، لا يتعذر عليه مراد، ولا يمتنع عليه مطلوب، قد سُخرت له الرعية، وذُللت له الجبابرة.
ولم يزل مقيمًا بتلمسان وكل من بها يعظمه من أمير ومأمور، إلى أن فصل عنها بعد أن استمال وجوه أهلها وملك قلوبها؛ فخرج قاصدًا مدينة فاس؛ فلما وصل إليها أظهر ما كان يظهره، وتحدث فيما كان يتحدث فيه من العلم. وكان جل ما يدعو إليه علم الاعتقاد على طريق الأشعرية1. وكان أهل المغرب -على ما ذكرنا- ينافرون هذه العلوم، ويعادون من ظهرت عليه، شديدًا أمرهم في ذلك؛ فجمع والي المدينة الفقهاء وأحضره معهم، فجرت له مناظرة كان له الشُّفُوف2 فيها والظهور؛ لأنه وجد جوًّا خاليًا، وألفى قومًا صيامًا عن جميع العلوم النظرية خلا علم الفروع. فلما سمع الفقهاء كلامه أشاروا على والي البلد بإخراجه لئلا يفسد عقول العوام؛ فأمره والي البلد بالخروج؛ فخرج متوجهًا إلى مراكش.
ابن تومرت في حضرة ابن تاشفين
وكُتب بخبره إلى أمير المسلمين علي بن يوسف؛ فلما دخلها أحضر بين يديه، وجمع له الفقهاء للمناظرة؛ فلم يكن فيهم من يعرف ما يقول، حاشا رجل من أهل الأندلس اسمه مالك بن وُهَيْب3 كان قد شارك في جميع العلوم، إلا أنه كان لا يظهر