وكر راجعًا إلى الإسكندرية، فأقام بها يختلف إلى مجلس أبي بكر الطرطوشي الفقيه1. وجرت له بها وقائع في معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أفضت إلى أن نفاه متولي الإسكندرية عن البلاد؛ فركب البحر؛ فبلغني أنه استمر على عادته في السفينة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى أن ألقاه أهل السفينة في البحر. فأقام أكثر من نصف يوم يجري في ماء السفينة لم يصبه شيء. فلما رأوا ذلك من أمره أنزلوا إليه من أخذه من البحر، وعظم في صدورهم، ولم يزالوا مكرمين له إلى أن نزل من بلاد المغرب بجاية, فأظهر بها تدريس العلم والوعظ، واجتمع عليه الناس، ومالت إليه القلوب، فأمره صاحب بجاية بالخروج عنها حين خاف عاديته، فخرج منها متوجهًا إلى المغرب. فنزل بضيعة يقال لها ملالة، على فرسخ من بجاية؛ وبها لقيه عبد المؤمن بن علي، وهو إذ ذاك متوجه إلى المشرق في طلب العلم؛ فلما رآه محمد بن تومرت، عرفه بالعلامات التي كانت عنده. وكان ابن تومرت هذا أوحد عصره في علم خطِّ الرَّمْل، مع أنه وقع بالمشرق على ملاحم من عمل المنجمين وجُفور2 من بعض خزائن خلفاء بني العباس؛ أوصله إلى ذلك كله فرط اعتنائه بهذا الشأن, وما كان يحدث به نفسه.
وبلغني من طرق صحاح أنه لما نزل ملالة -الضيعة التي تقدم ذكرها- سُمع وهو يقول: ملالة! ملالة! يكررها على لسانه يتأمل أحرفها؛ وذلك لما كان يراه أن أمره يقوم من موضع في اسمه ميم ولامان؛ فكان -كما ذكرنا- إذا كررها يقول: ليست هي!.
وأقام بهذه الضيعة أشهرًا، وبها مسجد يعرف به، وهو باقٍ إلى اليوم، لا أدري أبني على عهده أو بعده.
... فاستدعى عبد المؤمن وخلا به، وسأله عن اسمه واسم أبيه ونسبه، فتسمى له وانتسب. وسأله عن مقصده فأخبره أنه راحل في طلب العلم إلى المشرق. فقال له ابن تومرت: أوَخَير من ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: شرف الدنيا والآخرة؛ تصحبني وتعينني على ما أنا بصدده، من إماتة المنكر وإحياء العلم وإخماد البدع. فأجابه عبد المؤمن إلى ما أراده.