المتوكل العباسي سنة 247 هـ، وكان ابن قتيبة عندها قد جاوز الثلاثين بقليل، ثم إذا هو يعيش بعد هذا ليشهد هذه الفوضى تمتد وتستفحل ويرى بعينيه مقتل المستعين باللَّه سنة 252 هـ، ثم مقتل المعتز باللَّه سنة 255 هـ على أبشع صورة يدبرها قاتل لمقتول، فلقد دخل عليه الأتراك فأوسعوه ضربا وأحرقوا ثيابه ثم جروه برجليه إلى صحن الدار في العراء حيث الشمس المحرقة، وتركوه ملقى على الأرض يرفع رجلا ويضع أخرى من شدة أذى الحر.
ومن بعد مصرع المعتز كان مصرع المهتدي باللَّه سنة 256 هـ على يد الأتراك، ولقد شهده ابن قتيبة أيضا كما شهده غيره مما سبق.
وكما كانت حياة الخلفاء كانت حياة الناس، وكما عاش الخلفاء على رهب وفزع عاش الناس على خوف وحذر لا يملكون أن يقولوا ولا أن يفصحوا، وكانت هذه الحياة الرهيبة المسكتة للألسن لها هذا الأثر الثاني الّذي أرادته، ولكنه كان أثرا ذا مظهر آخر كما قلت، مظهر يطوى تحته الخشية والتحرز، فلم يعد الشعراء يملكون النفوس الجريئة والعواطف المنطلقة، ولم يعد الكتّاب يملكون الأقلام المتحررة، من أجل ذلك خمدت في الشعر جذوته، ومن أجل ذلك التزم الكتّاب جانب الخشية والحذر.
وقد لا نلمس ذلك واضحا مع جامعى الأخبار الأدبية، ولكنا نكاد نلمسه جليّا مع المؤرخين حين يتناولون تلك الحقبة التي عاشوها بالحديث عنها، فنرى ابن قتيبة، وهو الّذي عاش مع تلك الأحداث وأحس ألمها ومضاضتها، حين يترجم للمتوكل، ثم للمستعين باللَّه ثم للمعتز ثم للمهتدى، يوجز أخبارهم إيجازا غريبا فتكاد الترجمة لا تزيدا على السطر أو السطرين، ولا يعنينا فيها هذا الإيجاز وإنما يعنينا فيها ذلك الحديث العابر الفاتر الّذي يخلو من أية إشارة إلى ما كان، فهو لا يزيد في وصف مقتل كل منهم على كلمته المألوفة: «وقتل في سنة ... » وهذا الّذي خطه ابن قتيبة لنفسه خط مثله ابن حبيب لنفسه ولم يزد هو الآخر شيئا.
هذا هو المظهر الّذي نعنيه، والّذي كان أثرا من آثار ذلك الإرهاب. والطريف أن ابن حبيب، وابن قتيبة من بعده، حين وجدا أنهما مضطران لهذا فيما وقع