على أصقاع الإِسلام، فهم حراس الشريعة بأنفسهم إن حضروا يفدونها بالنفس قبل النفيس، دمان غابوا فقداعدهم وأصولهم كالأوتاد، امتازوا عن غيرهم أن الغث من بضاعتهم لا يختلط بالسمين، حتى أصبح التاريخ الصحيح في كتبهم وعن أخبارهم، وتراجمهم همة المصنفين وسياحة المقتدين، فأهملت بسبب ذلك حياة الأعلام والسلاطين.
والدعاوى إذ لم يقيموا عليها ... بينات أصحابها أدعياء
نعم، من أراد أن ينشرح صدره مما أقول فليتجول بين كتبهم وأخبارهم، بل يكفي أن يقرأ في مثل (سير أعلام النبلاء) للذهبي، ليجد نفسه في رياض تهتز بكل زهر، وتعبق بكل عطر، ويكفي أن أذكر من المتقدمين مثل مالك (ت 179 هـ)، وأحمد (ت 241 هـ)، والبخاري (ت 256 هـ)؛ ومن المتوسطين كالنووي (ت 676 هـ)، والمزي (ت 742 هـ)، والذهبي (ت 748 هـ)، ويكفي المتأخرين خاتمة الحفاظ وقطب المحدثين ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ).
المهم أن هؤلاء الأئمة نشطوا في تشييد هذا البنيان، يكمل المتأخر ما بدأه المتقدم، ويجمل الحاضر ما سواه الأول، حتى بلغ البناء ما تراه من عشرات الألوف من المجلدات التي تختزن الدرر، ولا تخلو من المدر وربما البعر، إلا أن هذا النشاط الذي ليس له نظير لم يكن مطردًا في كل القرون، بل كان يتردد بين المد والجزر، فما زال يعلو شأنه من عهده - صلى الله عليه وسلم - إلى أن لمع نجمه وبلغ أوج مجده في القرنين الثالث والرابع، إذ فيهما ضرب المحدثون أروع الأمثلة في جمع الحديث وحفظه وتدوينه، وجابوا الأقطار من أجل ذلك، فتعددت للمتن الأسانيد، وتكررت الأسانيد في