أنتظر الواشين والرقباء حتى يناموا. ثم ودعته وسارت وكل واحد منهما يلتفت نحو الآخر ويبكي. فبكيت رحمة لهما وقلت في نفسي: والله لا أنصرف حتى أستضيفه الليلة وأنظر ما يكون من أمرهما فلما أصبحنا قلت له: جعلني الله فداءك، الأعمال بخواتيمها وقد نالني أمس تعب شديد فأحب الراحة عندك اليوم، فقال: على الرحب والسعة لو أقمت عندي بقية عمرك ما وجدتني إلا كما تحب؛ ثم عمد إلى شاة فذبحها وقام إلى نار فأججها وشواها وقدمها إلي فأكلت وأكل معي إلا أنه أكل أكل من لا يريد الأكل فلم أزل معه نهاري ذلك ولم أر أشفق منه على غنمه ولا ألين جانبا ولا أحلى كلاما إلا أنه كالولهان ولم أعلمه بشيء مما رأيت فلما أقبل الليل وطأت وطائي فصليت وأعلمته أني أريد الهجوع لما مر بي من التعب بالأمس، فقال لي: نم هنيئا، فأظهرت النوم ولم أنم فأقام ينتظرها إلى هنيهة من الليل فأبطأت عليه فلما حان وقت مجيئها قلق قلقا شديدا وزاد عليه الأمر فبكى ثم جاء نحوي فحركني فأوهمته أني كنت نائما فقال: يا أخي، هل رأيت الجارية التي كانت تتعهدني وجاءتني البارحة، قلت: قد رأيتها، قال: فتلك ابنة عمي وأعز الناس علي وإني لها محب ولها عاشق وهي أيضا محبة لي أكثر من محبتي لها وقد منعني أبوها من تزويجها لي لفقري وفاقتي وتكبر علي فصرت راعيا بسببها فكانت تزورني في كل ليلة وقد حان وقتها الذي تأتي فيه واشتغل قلبي وتحدثني نفسي أن الأسد قد افترسها، ثم أنشأ يقول:

ما بال ميّة لا تأتي كعادتها ... أعاقها طرب أم صدّها شغل

نفسي فداؤك قد أهللت بي سقما ... تكاد من حرّه الأعضاء تنفصل «1»

قال: ثم انطلق عني ساعة فغاب وأتى بشيء فطرحه بين يدي فإذا هي الجارية قد قتلها الأسد وأكل أعضاءها وشوه خلقتها ثم أخذ السيف وانطلق فأبطأ هنيهة وأتى ومعه رأس الأسد فطرحه ثم أنشأ يقول:

إلا أيها الليث المدلّ بنفسه ... هلكت لقد جرّيت حقا لك الشّرا

وخلفتني فردا وقد كنت آنسا ... وقد عادت الأيام من بعدها غبرا «2»

ثم قال: بالله يا أخي إلا ما قبلت ما أقول لك فإني أعلم أن المنية قد حضرت لا محالة فإذا أنا مت فخذ عباءتي هذه فكفني فيها وضم هذا الجسد الذي بقي منها معي، وادفنا في قبر واحد وخذ شويهاتي «3» هذه وجعل يشير إليها فسوف تأتيك امرأة عجوز هي والدتي فأعطها عصاي هذه وثيابي وشويهاتي وقل لها: مات ولدك كمدا بالحب فإنها تموت عند ذلك فادفنها إلى جانب قبرنا وعلى الدنيا مني السلام.

قال: فو الله ما كان إلا قليل حتى صاح ووضع يده على صدره ومات لساعته، فقلت: والله لأصنعن له ما أوصاني به فغسلته وكفنته في عباءته وصليت عليه ودفنته ودفنت باقي جسدها إلى جانبه وبت تلك الليلة باكيا حزينا فلما كان الصباح أقبلت امرأة عجوز وهي كالولهانة فقالت لي:

هل رأيت شابا يرعى غنما فقلت لها: نعم، وجعلت أتلطف بها ثم حدثتها بحديثه وما كان من خبره فأخذت تصيح وتبكي وأنا ألاطفها إلى أن أقبل الليل وما زالت تبكي بحرقة إلى أن مضى من الليل برهة فقصدت نحوها فإذا هي مكبة على وجهها وليس لها نفس يصعد ولا جارحة تتحرك فحركتها فإذا هي ميتة فغسلتها وصليت عليها ودفنتها إلى جانب قبر ولدها وبت الليلة الرابعة فلما كان الفجر قمت فشددت فرسي وجمعت الغنم وسقتها فإذا أنا بصوت هاتف يقول:

كنّا على ظهرها والدهر يجمعنا ... والشمل مجتمع والدار والوطن

فمزّق الدهر بالتفريق ألفتنا ... وصار يجمعنا في بطنها الكفن

قال: فأخذت الغنم ومضيت إلى الحي لبني عمهم فأعطيتهم الغنم وذكرت لهم القصة فبكى عليهم أهل الحي بكاء شديدا ثم مضيت إلى أهلي وأنا متعجب مما رأيت في طريقي.

ومن ذلك ... ما حكي أن زوج عزة أراد أن يحج بها فسمع كثير الخبر فقال: والله لأحجنّ لعلي أفوز من عزة بنظرة، قال: فبينما الناس في الطواف إذ نظر كثير لعزة وقد مضت إلى جملة فحيته ومسحت بين عينيه وقالت له: يا جمل فبادر ليلحقها ففاتته فوقف على الجمل وقال:

حيتّك عزة بعد الحجّ وانصرفت ... فحيّ ويحك من حيّاك يا جمل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015