قال: فصاح أمير المؤمنين، فلما سمعته تلقته، وأكبت على رجليه تقبلهما، فقال: ما هذا؟ قالت: يا مولاي رأيت في منامي هذه اليلة كأنك قد رضيت عني، فأنشدت ما سمعت. قال: وأنا والله رأيت مثل ذلك، ثم قال يا علي: هل رأيت أعجب من هذا الاتفاق، ثم أخذ بيدها ومضى إلى حجرتها وكان من أمرهما ما كان.

ومن ذلك ما حدث الشيباني قال: كان عند رجل بالعراق قينة، وكان أبو نواس يختلف إليها، وكانت تظهر له أنها لا تحب غيره وكان كلما دخل إليها وجد عندها شابا يجالسها ويحادثها فقال فيها هذه الأبيات:

ومظهرة لخلق الله ودّا ... وتلقي بالتحية والسّلام

أتيت لبابها أشكوا إليها ... فلم أخلص إليه من الزّحام

فيا من ليس يكفيها خليل ... ولا ألفا خليل كلّ عام

أراك بقيّة من قوم موسى ... فهم لا يصبرون على طعام

وقال أبو سويد: حدثني أبو زيد الأسدي قال: دخلت على سليمان بن عبد الملك وهو جالس في إيوان مبلط بالرخام مفروش بالديباج الأخضر في وسط بستان ملتف قد أثمر وأينع وعلى رأسه وصائف كل واحدة منهن أحسن من صاحبتها، وقد غابت الشمس وغنت الأطيار فتجاوبت وصفقت الرياح على الأشجار فتمايلت. فقلت: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، وكان مطرقا، فرفع رأسه، وقال: أبا زيد في مثل هذا حين تصاحبنا.

فقلت: أصلح الله الأمير أو قامت القيامة؟ قال: نعم على أهل المحبة، ثم أطرق مليا ورفع رأسه وقال: أبا زيد ما يطيب في يومنا هذا؟ قلت: أصلح الله الأمير قهوة حمراء في زجاجة بيضاء تناولها غادة هيفاء مضمومة لفّاء أشربها من كفها وأمسح فمي بخدها، فلما رأت الوصائف ذلك تنحين عنه، ثم رفع رأسه، فقال: أبا زيد حضرت في يوم فيه انقضاء أجلك ومنتهى مدتك وتصرم عمرك والله لأضربن عنقك أو لتخبرني ما أثار هذه الصفة من قلبك؟.

قلت: نعم أصلح الله الأمير كنت جالسا عند دار أخيك سعيد بن عبد الملك، فإذا أنا بجارية قد خرجت من باب القصر كأنها غزال انفلت من شبكة صياد عليها قميص سكب اسكندراني يبين منه بياض بدنها وتدوير سرتها ونقش تكتها، وفي رجليها نعلان صراران قد أشرق بياض قدميها على حمرة نعليها بذؤابتين تضربان إلى حقويها لها صدغان كأنهما نونان وحاجبان قد قوسا على محاجر عينيها، وعينان مملوءتان سحرا، وأنف كأنه قصبة بلور، وفم كأنه جرح يقطر دما وهي تقول: عباد الله من لي بدواء ما لا يشتكى وعلاج ما لا يسمى، طال الحجاب وأبطأ الجواب، والقلب طائر، والعقل عازب والنفس والهة، والفؤاد مختلس، والنوم محتبس. رحمة الله على قوم عاشوا تجلدا وماتوا كمدا، ولو كان إلى الصبر حيلة أو إلى ترك الغرام سبيل لكان أمرا جميلا، ثم أطرقت طويلا ورفعت رأسها، فقلت لها: أيتها الجارية إنسية أنت أم جنية، سماوية أنت أم أرضية؟ فقد أعجبني ذكاء عقلك واذهلني حسن منطقك، فسترت وجهها بكمها كأنها لم ترني، ثم قالت: أعذر أيها المتكلم فما أوحش الساعد بلا مساعد، والمقاساة لصب معاند، ثم انصرفت، فو الله ما أكلت طعاما طيبا إلا غصصت به لذكرها، ولا رأيت حسنا إلا سمج في عيني لحسنها فقال سليمان: أبا زيد كاد الجهل يستفزني والصبا يعاودني والحلم يعزب عني لشجو ما سمعت. اعلم يا أبا زيد أن تلك التي رأيتها هي الذلفاء التي قيل فيها:

إنّما الذلفاء ياقوتة ... أخرجت من كيس دهقان «1»

شراؤها على أخي ألف ألف درهم، وهي عاشقة لمن باعها والله إن مات ما يموت إلا بحبها ولا يدخل القبر إلا بغصتها، وفي الصبر سلوة وفي توقع الموت نهية. قم أبا زيد في دعة الله تعالى، ثم قال: يا غلام نفله ببدرة، فأخذتها وانصرفت.

وقال: فلما أفضت الخلافة إليه صارت الذلفاء إليه، فأمر بفسطاط «2» ، فأخرج على دهناء الغوطة وضرب في روضة خضراء مونقة زهراء ذات حدائق بهجة تحتها أنواع الزهر ما بين أصفر فاقع وأحمر ساطع وأبيض ناصع.

وكان لسليمان مغن يقال له سنان، به يأنس وإليه يسكن فأمره أن يضرب فسطاطه بالقرب منه، وكانت الذلفاء قد خرجت مع سليمان إلى ذلك المتنزه، فلم يزل سنان يومه ذلك عند سليمان في أكمل سرور، وأتم حبور إلى أن انصرف من الليل إلى فسطاطه، فنزل به جماعة من إخوانه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015