بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود» . وقال علي رضي الله عنه وكرم وجهه: سرك أسيرك فإذا تكلمت به صرت أسيره، واعلم أن أمناء الأسرار أقل وجودا من أمناء الأموال، وحفظ الأموال أيسر من كتمان الأسرار، لأن إحراز الأموال منيعة بالأبواب والأفعال، وإحراز الأسرار بارزة يذيعها لسان ناطق ويشيعها كلام سابق. وحمل الأسرار أثقل من حمل الأموال فإن الرجل يستقل بالحمل الثقيل، فيحمله ويمشي به، ولا يستطيع كتم السر. وإن الرجل يكون سره في قلبه، فيلحقه من القلق والكرب ما لا يلحقه من حمل الأثقال، فإذا أذاعه استراح قلبه، وسكن خاطره، وكأنما ألقى عن نفسه حملا ثقيلا. وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: القلوب أوعية والشفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها، فليحفظ كل إنسان مفتاح سره. ومن عجائب الأمور أن الأموال كلما كثرت خزائنها كان أوثق لها، وأما الأسرار فإنها كلما كثرت خزائنها كان أضيع لها، وكم من إظهار سر أراق دم صاحبه ومنعه من بلوغ مآربه ولو كتمه أمن سطواته. وقال أنوشروان: من حصن سره، فله بتحصينه خصلتان، الظفر بحاجته، والسلامة من السطوات. وقيل: كلما كثرت خزان الأسرار، زادت ضياعا. وقيل: انفرد بسرك لا تودعه حازما فيزل، ولا جاهلا فيخون.

وقال كعب بن سعد الغنوي:

ولست بمبد للرجال سريرتي ... ولا أنا عن أسرارهم بسؤول «1»

وقال أبو مسلم صاحب الدولة:

أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت ... عنه ملوك بني مروان إذ جهدوا

ما زلت أسعى عليهم في ديارهم ... والقوم في غفلة بالشام قد رقدوا

حتى ضربتهم بالسيف فانتبهوا ... من نومة لم ينمها قبلهم أحد

ومن رعا غنما في أرض مسبعة ... ونام عنها تولّى رعيها الأسد «2»

وأسرّ رجل إلى صديقه حديثا، ثم قال له أفهمت؟ قال:

بل جهلت. ثم قال له: أحفظت؟ قال: بل نسيت. وقيل لبعضهم: كيف كتمانك للسر؟ قال: أجحد المخبر، وأحلف للمستخبر. وقال المهلب: أدنى أخلاق الشريف كتمان السر وأعلى أخلاقه نسيان ما أسرّ إليه.

ومن أحسن ما قيل في كتمان السر قول الشاعر:

ولها سرائر في الضمير طويتها ... نسي الضمير بأنّها في طيّه

وقد أجازه الشيخ شمس الدين البدوي فقال:

إنّي كتمت حديث ليلى لم أبح ... يوما بظاهره ولا بخفيّه

وحفظت عهد ودادها متمسّكا ... في حبّها برشاده أو غيّه

ولها سرائر في الضمير طويتها ... نسي الضمير بأنّها في طيّه

وقيل: كتمان الأسرار يدل على جواهر الرجال، وكما أنه لا خير في آنية لا تمسك ما فيها، فكذلك لا خير في إنسان لا يمسك سره.

قال الشاعر:

ومستودعي سرّا كتمت مكانه ... عن الحسّ خوفا أن ينمّ به الحس «3»

وخفّفت عنه من هوى النفس شهوة ... فأودعته من حيث لا يبلغ الحس

وقال قيس بن الحطيم:

أجود بمكنون التلاد وإنّني ... بسري عمّن يسألنّي ضنين

وإن ضيّع الأقوام سري فإنّني ... كتوم لأسرار العشير أمين

وقال جعفر بن عثمان:

يا ذا الذي أودعني سرّه ... لا ترج أن تسمعه منّي

لم أجره قطّ على فكرتي ... كأنه لم يجر في أذني

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: ما أفشيت سري إلى أحد قط، فأفشاه، فلمته إذ كان صدري به أضيق. وقال الأحنف بن قيس: يضيق صدر الرجل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015