الثَّانِيَةُ: ثُبُوتُ مِثَالِ حَقِيقَةٍ فِي الذِّهْنِ وَهُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعِلْمِ.
الثَّالِثَةُ: تَأْلِيفُ صَوْتٍ بِحُرُوفٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ الْعِبَارَةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمِثَالِ الَّذِي فِي النَّفْسِ.
الرَّابِعَةِ: تَأْلِيفُ رُقُومٍ تُدْرَكُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ دَالَّةٍ عَلَى اللَّفْظِ وَهُوَ الْكِتَابَةُ، فَالْكِتَابَةُ تَبَعٌ لِلَّفْظِ إذْ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ تَبَعٌ لِلْعِلْمِ إذْ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَالْعِلْمُ تَبَعٌ لِلْمَعْلُومِ إذْ يُطَابِقُهُ وَيُوَافِقُهُ، وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ مُتَطَابِقَةٌ مُتَوَازِيَةٌ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَيْنِ وُجُودَانِ حَقِيقِيَّانِ لَا يَخْتَلِفَانِ بِالْأَعْصَارِ وَالْأُمَمِ وَالْآخَرَيْنِ وَهُوَ اللَّفْظُ وَالْكِتَابَةُ يَخْتَلِفَانِ بِالْأَعْصَارِ وَالْأُمَمِ لِأَنَّهُمَا مَوْضُوعَانِ بِالِاخْتِيَارِ، وَلَكِنَّ الْأَوْضَاعَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ صُوَرُهَا فَهِيَ مُتَّفِقَةٌ فِي أَنَّهَا قُصِدَ بِهَا مُطَابَقَةُ الْحَقِيقَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَدَّ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمَنْعِ وَإِنَّمَا اُسْتُعِيرَ لِهَذِهِ الْمَعَانِي لِمُشَارَكَتِهِ فِي مَعْنَى الْمَنْعِ، فَانْظُرْ الْمَنْعَ أَيْنَ تَجِدُهُ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ. فَإِذَا ابْتَدَأْتَ بِالْحَقِيقَةِ لَمْ تَشُكَّ فِي أَنَّهَا حَاصِرَةٌ لِلشَّيْءِ مَخْصُوصَةٌ بِهِ إذْ حَقِيقَةُ كُلِّ شَيْءٍ خَاصِّيَّتُهُ الَّتِي لَهُ وَلَيْسَتْ لِغَيْرِهِ فَإِذَا الْحَقِيقَةُ جَامِعَةٌ مَانِعَةٌ، وَإِنْ نَظَرْتَ إلَى مِثَالِ الْحَقِيقَةِ فِي الذِّهْنِ وَهُوَ الْعِلْمُ وَجَدْتَهُ أَيْضًا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُطَابِقٌ لِلْحَقِيقَةِ الْمَانِعَةِ وَالْمُطَابَقَةُ تُوجِبُ الْمُشَارَكَةَ فِي الْمَنْعِ، وَإِنْ نَظَرْتَ إلَى الْعِبَارَةِ عَنْ الْعِلْمِ وَجَدْتَهَا أَيْضًا حَاصِرَةً فَإِنَّهَا مُطَابِقَةٌ لِلْعِلْمِ الْمُطَابِقِ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمُطَابِقُ لِلْمُطَابِقِ مُطَابِقٌ، وَإِنْ نَظَرْتَ إلَى الْكِتَابَةِ وَجَدْتَهَا مُطَابِقَةً لِلَّفْظِ الْمُطَابِقِ لِلْعِلْمِ الْمُطَابِقِ لِلْحَقِيقَةِ فَهِيَ أَيْضًا مُطَابِقَةٌ فَقَدْ وَجَدْتَ الْمَنْعَ فِي الْكُلِّ إلَّا أَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِإِطْلَاقِ الْحَدِّ عَلَى الْكِتَابَةِ الَّتِي هِيَ الرَّابِعَةُ وَلَا عَلَى الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ الثَّانِي بَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَبَيْنَ اللَّفْظِ وَكُلُّ لَفْظٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ حَقِيقَتَيْنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَدَّانِ مُخْتَلِفَانِ كَلَفْظِ الْعَيْنِ. فَإِذًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى نَفْسِ الشَّيْءِ يَكُونُ حَدًّا لِحَدٍّ أَنَّهُ حَقِيقَةُ الشَّيْءِ وَذَاتُهُ وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ الثَّانِي يَكُونُ حَدًّا لِحَدٍّ أَنَّهُ اللَّفْظُ الْجَامِعُ الْمَانِعُ، إلَّا أَنَّ الَّذِينَ أَطْلَقُوهُ عَلَى اللَّفْظِ أَيْضًا اصْطِلَاحُهُمْ مُخْتَلِفٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْحَدِّ اللَّفْظِيِّ وَالرَّسْمِيِّ وَالْحَقِيقِيِّ، فَحَدُّ الْحَدِّ عِنْدَ مَنْ يَقْنَعُ بِتَكْرِيرِ اللَّفْظِ كَقَوْلِكَ الْمَوْجُودُ هُوَ الشَّيْءُ وَالْعِلْمُ هُوَ الْمَعْرِفَةُ وَالْحَرَكَةُ هِيَ النَّقْلَةُ هُوَ تَبْدِيلُ اللَّفْظِ بِمَا هُوَ أَوْضَحُ عِنْدَ السَّائِلِ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَجْمَعَ وَيَمْنَعَ. وَأَمَّا حَدُّ الْحَدِّ عِنْدَ مَنْ يَقْنَعُ بِالرَّسْمِيَّاتِ فَإِنَّهُ اللَّفْظُ الشَّارِحُ لِلشَّيْءِ بِتَعْدِيدِ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ أَوْ اللَّازِمَةِ عَلَى وَجْهٍ يُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ تَمْيِيزًا يَطَّرِدُ وَيَنْعَكِسُ، وَأَمَّا حَدُّهُ عِنْدَ مَنْ لَا يُطْلِقُ اسْمَ الْحَدِّ إلَّا عَلَى الْحَقِيقِيِّ فَهُوَ أَنَّهُ الْقَوْلُ الدَّالُ عَلَى تَمَامِ مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ، وَلَا يُحْتَاجُ فِي هَذَا إلَى ذِكْرِ الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ لِأَنَّ ذَلِكَ تَبَعٌ لِلْمَاهِيَّةِ بِالضَّرُورَةِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى التَّعَرُّضِ لِلَّوَازِمِ فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ بَلْ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ إلَّا الذَّاتِيَّاتُ فَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ اسْمَ الْحَدِّ مُشْتَرَكٌ فِي الِاصْطِلَاحَاتِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَشَرْحِ اللَّفْظِ وَالْجَمْعِ بِالْعَوَارِضِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْمَاهِيَّةِ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا دَلَّ لَفْظُ الْعَيْنِ عَلَى أُمُورٍ مُخْتَلِفَةٍ،
فَتَعَلَّمْ صِنَاعَةَ الْحَدِّ.
فَإِذَا ذُكِرَ لَكَ اسْمٌ وَطُلِبَ مِنْكَ حَدُّهُ فَانْظُرْ فَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا فَاطْلُبْ عِدَّةَ الْمَعَانِي الَّتِي فِيهَا الِاشْتِرَاكُ، فَإِنْ كَانَتْ ثَلَاثَةٌ فَاطْلُبْ لَهَا ثَلَاثَةَ حُدُودٍ، فَإِنَّ الْحَقَائِقَ إذَا اخْتَلَفَتْ فَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِلَافِ الْحُدُودِ، فَإِذَا قِيلَ لَك: مَا الْإِنْسَانُ؟ فَلَا تَطْمَعْ فِي حَدٍّ وَاحِدٍ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أُمُورٍ، إذْ يُطْلَقُ عَلَى إنْسَانِ الْعَيْنِ وَلَهُ حَدٌّ وَعَلَى الْإِنْسَانِ الْمَعْرُوفِ وَلَهُ حَدٌّ آخَرُ وَعَلَى الْإِنْسَانِ الْمَصْنُوعِ عَلَى