وفي أي اتّجاه، ومن أجل أيّ هدف، يعني التفريط بعصب العقيدة وضياع وجهها وملامحها.. ولذا كان صلى الله عليه وسلم- كما ذكرنا وكما أكّد وكرّر جلّ الباحثين في تاريخ النبوة- مستعدا للقاء مع قريش في كل شيء إلا في هذه، وللحوار والانفتاح على أي شيء إلّا على هذه، ولإقامة الجسور بين الأطراف كافة للوصول إلى أي شيء مشترك إلّا في قضية التوحيد المطلق الذي هو قاعدة الدين وعصب الدعوة، وأساس العقيدة التي بعث لكي يحقّقها في العالم.
وإذا حدث فيما بعد، على المستوى الزمني، أن تنزّلت آيات القرآن لكي تواصل البناء العقيدي، وتمدّ آفاقه وتزيد معطياته غنى.. فإنّ هذا لا يعني حدوث تطور تدريجي بالمفهوم الغربي للتطور.. فإن الأساس العقيدي هو الأساس وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظلّ على بيّنة من الأمر إزاء هذا الأساس، وكل الذي كان يحدث هو إضافة معطيات جديدة تنبثق عن القاعدة نفسها وتبني على محورها الثابت الواضح.
وثمة تفريق آخر يجب أن يكون واضحا في الأذهان: إنّ العقيدة غير الشريعة، صحيح أن هذه تقوم على تلك وتنبثق عن مقولاتها، وتكسب صيغها من معادلات العقيدة نفسها، ولكنها تجيء فيما بعد تتضمّن حشدا من الجزئيات التنفيذية التي لم يكن النبي- أيّ نبيّ- يعرف عنها مقدما..
أمّا العقيدة فهي تصوّر أساسيّ شامل للكون والحياة والمصير، فإن لم يكن النبي يعرف مقدما أبعاده وخصائصه وأسسه؛ فكيف يبدأ دعوته مجابها بها الإنسان والعالم والطبيعة والتاريخ؟!
ولقد ناقشنا من قبل تهافت ما أسماه (وات) بالآيات الإبليسيّة التي تحكي عن اعتراف الرسول صلى الله عليه وسلم بالأصنام مقابل اعتراف الجاهليّين بالله الواحد!! وسقوطها بالضرورة.. ولكننا نرجع إليها مرة أخرى مضطرّين؛ لأن (وات) يدافع من خلالها عن الرسول صلى الله عليه وسلم دفاعا ملتويا لا ندري إن كان متعمدا خبيثا، أم كان استمرارا طبيعيا لنظرية الغربيّين إياها عن التطور التدريجي للدين.