ولكنّ هذه الروافد كافة، ما تلبث أن تتجمّع لكي تجعل موقف المسلم من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم واحدا. أيّا كان موقع هذا المسلم، اللهم إلّا في حالات استثنائية تقتصر على الخارجين على الإسلام بهذه الدّرجة أو تلك، وعلى بعض الدارسين الذين تلقّوا تأثيرات مضادة عن مصادر غير إسلامية.
إن هذا الموقف المتوحّد من السيرة الذي تتغلغل في نسيجه مشاعر الاحترام والتقدير والإعجاب والمحبة واليقين.. والذي يجد في السيرة تعبيرا متكاملا عن العقيدة التي ينتمي إليها، يجد في الدراسات الاستشراقية (الخارجية) عن السيرة تغرّبا عن مسلّماته وخروجا صريحا عن بداهاته، وما يمكن اعتباره محاولات متعدّدة لإصابة هذه المسلّمات والبداهات بالجروح والكسور.. وهي لن تفعل فعلها في يقينه، إلّا في حالات معينة بينما نجدها تدفعه في أغلب الحالات وأعمّها إلى الاشمئزاز والنّفور.
هذا مع أن معالجة واقعة تمتد جذورها إلى عالم الغيب، وترتبط أسبابها بالسماء، ويكون فيها (الوحي) همزة وصل مباشرة بين الله سبحانه ورسوله الكريم، ويتربّى في ظلالها المنتمون على عين الله ورسوله ليكونوا تعبيرا حيّا عن إيمانهم، وقدوة حسنة للقادمين من بعدهم.. واقعة كهذه لا يمكن بحال أن تعامل كما تعامل الجزئيات والذرّات والعناصر في مختبر للكيمياء.. أو كما تعامل الخطوط والزوايا في المساحات على تصاميم المهندسين، بل ولا كما تعامل الوقائع التاريخيّة التي لا ترتبط بأيّ بعد دينيّ أصيل..
إننا هنا بمواجهة تجربة من نوع خاص، وشبكة من العوامل والمؤثّرات تندّ عن حدود مملكة العقل، وتستعصي على التحليل المنطقيّ الاعتياديّ المألوف، ومن ثم فإنّ محاولة قسرها على الخضوع لمقولات العقل الصرف ومعطيات المنطق المتوارثة لا يقود إلى نتائج خاطئة حينا، ولا تستعصي عليه بعض الظواهر حينا آخر فحسب، بل إنه يقوم بما يمكن اعتباره جريمة