والحكمة ويكفي أن نتصور قرطبة - أعظم حواضر الأندلس الإسلامية - وقد أضحت مكونة من مائتين وخمسين ألفا من القصور والمساكن الراقية يسكنها ألف ألف من المسلمين والنصارى واليهود، وأنه كان فيها دكان النسخ الواحد يستخدم مائة وسبعين جارية في نقل المؤلفات النادرة لطلاب الكتب، وأنه كان في قصر الخليفة أربعمائة ألف كتاب1.
ومهما وصفنا أو أثنينا على حضارتنا تلك فإن شهادة الأوروبيين أنفسهم أبلغ في هذا المجال فلنستمع للكاتب الأسباني بلاسكو أبانيز يقول في كتاب له اسمه ظلال الكنيسة:
في خلال سنتين اثنتين استولى الغزاة على ملك قضى مستردوه سبعة قرون كاملة في استرداده، ولم يكن في الواقع فتحا فرض على الناس برهبة السلاح بل حضارة جديدة بسطت شعابها على جميع مرافق الحياة، ولم يتخل أبناء تلك الحضارة زمنا عن فضيلة حرية الضمير وهي الدعامة التي تقوم عليها كل عظمة حقة للشعوب فقبلوا في المدن التي ملكوها كنائس النصارى وبيع النهود ولم يخش المسجد معابد الأديان التي سبقته فعرف لها حقها واستقر إلى جانبها غير حاسد لها ولا راغب في السيطرة عليها ونمت على هذا ما بين القرن الثامن والقرن الخامس عشر أجمل الحضارات وأغناها في العصور الوسطى، في الزمن الذي كانت فيه أمم الشمال فريسة للفتن الدينية والمعارك الهمجية يعيشون عيشة القبائل المستوحشة في بلادهم المتخلفة، وبينما كانت شعوب الفرنجة والسكسون والجرمان يعيشون في الأكواخ ويعتلي ملوكهم وأشرافهم قمم الصخور في القلاع المظلمة ومن حولهم رجال هم عالة عليهم يلبسون الزرد ويأكلون طعام الإنسان الأول قبل التاريخ كان العرب الأندلسيون يشيدون قصورهم القوراء ويرودون الحمامات للمساجلة في مسائل العلم والأدب وتناشد الأشعار وتناقل الأخبار. ا -هـ2.