مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ حَدِيثًا لَكِنْ يَرْوِي شيْئًا كَثِيرًا مِنْ الأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ، وَلَا يُميِّزُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ. وَربَّمَا جَمَعَ بَابًا وَكُلُّ أَحَادِيثِهِ ضَعِيفَةٌ كَأَحَادِيثِ أَكْلِ الطِّينِ وَغَيرهَا) (?).
قُلْتُ: قَدْ ذَكَر شَيْخُ الإسْلَامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ الله في مَوَاضِعَ أُخْرَى مِنْ كُتُبهِ بأنَّ كَثِيرًا مِنَ المُحَدِّثينَ الذينَ صَنَّفُوا في فَضَائِلِ العِبَادَاتِ، وفَضَائِلِ الأَوْقَاتِ، وفي الزُّهْدِ والرَّقَائِقِ، وفي التَّفْسِيرِ، والتَّارِيخِ وغَيرِ ذَلِكَ كَانُوا يَرْوُونَ كُلَّ شَيءٍ وإنْ كانَ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ لا يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ، بلْ يَعْتَقِدُ ضعْفَهُ، لأنَّهُ يَقُولُ: (أَنَا نَقَلْتُ مَا ذَكَرَ غَيري، فَالعُهْدَةُ على القَائِلِ لَا عَلَى النَّاقِلِ) (?).
فَلَمْ يَكُن ابنُ مَنْدَه رَحِمَهُ الله تَعَالىَ بِدْعًا مِنْ غَيرِه مِنَ المُحَدِّثينَ، فقد سَاقَ الأَخْبَارَ بأَسَانِيدِها، وبِذَلِكَ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنَ العُهْدَةِ، ومَنْ أَرَادَ أنْ يَتَحَقَّقَ مِنْ صِحَّةِ الأَحَادِيث فَعَليْهِ بِنَقْدِ هَذِه الأَسَانِيدِ، وقد أَشَارَ إلى هَذا المَعْنَى في كِتَابهِ (المُسْتَخْرَجِ) فإنَّهُ لمَّا ذَكَر الاخْتلَافَ في اسمِ أَبِي مَالِكٍ الأَشعَرِيِّ نَقْلًا عَن أَبِي أَحْمَدِ الحَاكِمِ في كِتَابهِ الكُنَى قالَ: (قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ رَحِمَهُ الله: ولَيْسَ لِصَاحِبِ الحَديثِ إلَّا تَبْلِيغُ مَا انْتَهَى إليهِ منْ أَقَاوِيلِ المُحَدِّثينَ بالأَسَانِيدِ في الأَسْمَاءِ، والكُنَى، والأَنْسَابِ، والأَحْوَالِ، والمَوْتِ، والحَيَاةِ، فَلَنْ يَسْلَمَ أَحَدٌ إلَّا بِحِفْظِ اللِّسَانِ، وتَرْكِ الكَذَبِ والبُهْتَانِ) (?). وهذا دَلِيلٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ العُلَمَاءَ عِنْدَما يَسُوقُونَ الأَخْبَارَ والأَحَادِيثَ بالإسْنَادِ يُورِدُونَ المَقْبُولَ مِنْهَا والمَرْدُودَ، ويَرَوْنَ أنَّ هَذا كَافِيًا لِبرَاءَتِهِم مِنَ العُهْدَةِ فِيمَا أَوْرَدُوهُ.