العربيّ مُتَفَطِّنًا للظّروف والملابسات ومقاصد السّؤال الموجَّه إليه، فلم يقتصر على مقتضى المتبادر من الألفاظ، وهو مجرد الرؤية أو اللُقيا، وإنّما أجاب عن سؤال مُضْمَر غير منطوق ومقتضاه: ما رأيُ الغزاليّ في محمّد بن تومرت، وهل كان يرى أنّه المهديّ المنتظر، وأنّه يتحتّم ظهوره؟ فكان الجواب أنّ الغزالي كان يقول: "لا بدّ من ظُهوره"، وهكذا يكون ابن العربيّ قد فتح صفحة جديدة في علاقته بالموحِّدين، يُكفِّر بها عن سوابقه مع غرمائهم المرابطن، الّذين تقدَّمت خدماتُه لهم وإكرامهم إياه، وإسناد الوظائف له والمهمّات، بل لا نبالغ إذا قلنا بأنّ خدمة المرابطن كانت إرثا تَأَثلَه عن أبيه، بل لا نبالغ إذا قلنا بأن خدمة السُّلطة والسَّعي لرضاها كان يجري في دَمِهِ، وأنّه ورثه من أبوَيْه: أخواله الهوازِئة، وأسرته المعافريّة اللّتين لعبتا الأدوار الأساسية على عهد العبّادية والمرابطيّة، فيصعُبُ عليه أن يتخلَّص من شهوة السُّلطة والطُّموح والنُّفوذ والوَجَاهة، والعِرْقُ غلاّبٌ ودسّاسٌ، وكل مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له.

وكان من الأجدر لصاحبنا وهو في شيخوخته العالية ألاّ يتجشّم مشاقّ الرِّحلة إلى مراكُش، ومتاعب الغُربة عن الأهل في إشبيلية، ولكن الّذين استحلّوا القُرْبَ من أصحاب السلطان، يحسبون أنّ كلّ صيحة عليهم، فيتوهّمون أنّ عدَمَ المشاركة في الوفد الّذي يقَدِّم فروض الولاء والطاعة، قد تفسِّرُه السُّلطة على أنّه استمرارٌ في الوَلاَء لأعدائهم المرابطين، وربّما كان يرى ابن العربيّ أنّ رئاسته لهذا الوفد فرصة سانحة لربط الخيوط بالدولة الجديدة، والتّنصُّل من أن يُحسبَ على العهد القديم، فتنفتح له قلوب الموحّدين، ويحظى بالوَجَاهة والمكانة، ولم لا بالمنصب الرّفيع: القضاء أو المُشَاوَرة، ذلك ما نرجِّح -والله أعلم- أنّه كان يلح على خاطر ابن العربيّ، ويناسب طموحه المعهود فيه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015