وفيه: أنّ الخَصمَ بعد موعظة محكم من حُجَّته.
وللبشر (?) صفاتٌ منها كمالٌ، ومنها دَنَاءاتٌ، فأمّا صفاتُ الكمالِ، فهي له ولأصحابه الكرام على التّمام والكمال، وأمّا الدّناءات، فهم مُبَرَّءُون منها، مُنَزَّهون عن التَّلبُّس بها. على أنّ النَّاس قد اختلفوا في عِصمَةِ الأنبياءِ عليهم السّلام، وقد بينّاه في "كتب الأصول" والذي عندنا أنّهم بعد النُّبوَّة معصومون، لا يُوَاقِعُ أحدٌ منهم خطيئةً، ولا يأتي دناءَةً، صغيرةً ولا كبيرةً، وقد دلّلنا عليه وبينّاهُ، وانفصلنا عن الظّواهرِ الّتي تشبَّت بها الجاهلون، وخُذُوا في ذلك أصلًا بديعًا: لا يقولَنَّ أحدُكم عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - ولا عن سائر الرُّسلِ إِلَّا ما قال الله تعالى، لا يزيدُ من عنده، ولا يفسّرُ بما لا يحتملُه اللَّفظُ من آدمَ إلى محمدٍ - صلّى الله عليه وسلم -، وإذا قال عن أحدٍ منهم شيئًا من ذلك فلا يقولُه إِلَّا قارئًا للقرآن، أو منبِّهًا لمن أشكلَ عليه حالٌ من الأحوال، فإمّا أنّ يضرِبَ لذلك مثلًا وتنزُّها، وإمّا أنّ يجعلَهُ لمن يعصى عُذْرًا، فهو كفرٌ يستتابُ قائلُه.
فآدم صلّى الله عليه إنّما اجتهد في التّأويل، فلم يُصِب وَجهَ الدّليلِ، وذلك جائزٌ على الأنبياء في كلِّ حال.
ونُوح صلّى الله عليه غَضِبَ على قومه، فدعا عليهم بالهَلَكَةِ (?)، وما أحقّهم بتلك الدّعوة، ولكن الّذي يقتضِيهِ مَنصِبُ النُّبوَّة، احتمالُ الأذَى والصّبرُ على الخَلق، ولم يكن ذلك إِلَّا لمحمّد - صلّى الله عليه وسلم - حين كُسِرَت رباعيّتُهُ وشُجَّ وجهُه، فقال: "اللَّهُمَّ اغفِر لِقَومِي فَإِنَّهُم لَا يَعلَمُونَ" (?) فهذا المقدارُ رأى نوحٌ أنّه قد قصذَر فيه بعدَ ما سَبقَ منه، فهو يعدُّه على نفسه لا نحنُ.