وما البغي والظلم والكيد والفتنة والاستبداد ونحوها مما يشمل أكثر وسائل الحياة الإنسانية إلا ضروب من القتل الخفي، وربما عد الموت في بعضها راحة من الموت، ولكن ذهب بإثمها في اصطلاح الناس أنها خطط موضوعة للمغالبة على الحياة، وأنها لا تنالهم إلا فردا فردا، وكأن باطل الأمم غبر باطل الأفراد، لأن الاجتماع قضى منذ أول العهد به أن تكون الأمة مظهر السرع وأن يكون الفرد مظهر العقاب، ولكن ليت شعري لما يكون الفرد كذلك من الأمة ولا تكون الأمة كذلك من أمة غيرها؟ فالحرب هي عقاب الجماعات، وهي كذلك ضرورة اجتماعية، ولن يخلو منها تاريخ الإنسان إلا إذا رجع الناس أمة واحدة في تركيب مستحيل لا يتهيأ أبد الدهر ما يقسم هذه الأمة على نفسها، ولعمري إن ذلك التركيب الاجتماعي الذي يخلو من الحروب ليزهد الناس في جنة الله ولا يدع للأديان محلا على الأرض، ويحسبون أنه صلاح في الطبيعة وهو يفسد الطبيعة كلها، فما هو إلا خيال شعري في تاريخ الحقيقة الإنسانية، وما رأى الحرب إلا البرهان الذي تقيمه الطبيعة أحيانا على فساد ذلك الخيال كلما أوشك الضعف الإنساني أن يتوهمه حقيقة ...
وإذا كان الله لم يخلق إنساناً من النور فلا تظلم نفسه، ولا من الثلج فلا يحمي دمه، ولا من الصخر فلا يهن كاهله، ولا من الحل فلا يحيف على غيره، ولا من الرضا فلا يطمع في سواه، ولا من الكتمان فلا تخرج أضغانه ولا من السكون فلا يتحرك في نزاع، فكيف لعمري يخلق بعض الكتاب والفلاسفة هذا الإنسان الجديد من عناصر السلم وحدها؟ ألا إن الإنسان لا يولد ساكنا ولا نظيفا، وإنما يخرج من بطن أمه في ثورة دموية تنفجر من حوله ههنا وههنا، وما أرى الحرب أكثر ما تكون إلا ولادة للتاريخ على هذا الأسلوب، فكأن من التاريخ ما يولد على أسلوب الحيوان في ثورة من الدم، ومنه ما يوجد على أسلوب النبات في تحول ساكن غير منظور.
قال "الشيخ علي": والحركات المجهولة في نظام الأرض كثيرة، بعضها يجري على الطبيعة وبعضها يجري على الإنسان، فكما يدك الجبل وتخسف الأرض ويغطي الماء وتثور العواصف وتتفجر البراكين، يجري على الإنسان من مثل هذا القحط والوباء والحروب وغيرها، لأن الإنسان في الحقيقة هو الطبيعة الرفيعة، وما القوة المركبة فيه التي تخرج من مجموع غرائزه إلا تهيئة حربية في نفسه.
فلولا أن هذا الإنسان مهيأ للحروب بأدواتها الطبيعية، وأن هذه الأدوات هي كذلك من أسباب بقائه اللازمة له، لما قامت في الأرض حرب قط، ولو أبعدنا في مطارح الفكر ونظرنا من وراء النفوس الإنسانية إلى ميادين القتال، لرأينا أن الحرب التي تقوم بين الأحياء إنما هي حرب قائمة بيد مذاهب الحياة.
وكما يجتمع العلماء وأهل السياسة لتنقيح الأنظمة والقوانين، تجتمع الدول المحاربة لتنقيح الطباع والعادات، وما أعجب أن يكون القتل تنقيحا في قانون الحياة. فلا تنظر من الحروب إلى هؤلاء المساكين والمتوجعين والمحزونين، فذلك كله إلى نهاية ولا يبقى منه على الأرض شيء قل أو كثر، ولا أحمق ممن ينظر ساعة الهدم على آثار الهدم ولا يعلم أن ذلك سبب لما بعده، وأنه إذا لم يهلك يوم في سبيل الغد هلك المستقبل كله.
ولكن متى تكون الحرب حقاً ومتى تكون باطلاً؟ هذا ما لا سبيل إلى وجه الرأي فيه، وربما كان الجواب عليه سؤالا آخر، وهو: متى تعرض في حياة الناس تلك المسائل التي لا يصلحون هم أنفسهم لحلها؟ ومتى تكون الحركة العنيفة التي يتحول بها التاريخ الإنساني كلما وجب أن يتحرف ليتبع مجراه من الغيب؟ أليس ذلك هو السبب في أن العقل أحيانا يكون أول ما ينهزم في الحرب كما تراه اليوم، فيصبح الفلاسفة والعلماء والمتفننون لا هم لهم إلا إدارة حركة الموت هجوما ودفاعا، وترى الصلوات والأدعية والتسابيح تصاعد إلى الله وفيها ريح الدم والنار والغازات، وكأنها قنابل صنعت من قنابل صنعت من العواطف؟ وقد يقول بعضهم إن في الحرب إسرافا اجتماعيا بما تأخذه من الموتى وما تترك من المرضى، ولكن كم من الإسراف الطبيعي والأخلاقي في بقاء الناس موفورين بعلومهم وفنونهم وشهواتهم ونعمهم ومصائبهم ونحوها، مما يؤدي إلى انطواء هذا لمجتمع الإنساني في الأدمغة والقلوب بما تبعث عليه تكاليف الحياة الاجتماعية السامية التي تحاول أن تجعل الإنسان حيوانا على شكل مخترع.