ما رأينا قط في تركيب هذا الكون المعجز شيئا خارجا عن موضعه، ولا شيئا زائدا في موضعه، فلم نظن مثل ذلك في الجهة التي بنا من حكمة الله، جهة السعد والنحس؟ يا بني، إنما قربت النعمة من فلان لأن القدر يسوقها إليه، وإنما بعدت النعمة عن فلان لأن القدر يسوقها إلى غيره، وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه، فربما سعى الفرد بكل سبب فلم يفلح، ثم يقع له سبب لم يمتهد له وسيلة قط فإذا هو عند بغيته، وإذا هو قد ملأ يديه مما كان قد يئس منه، فلا يكون عجبه كيف خاب في الأولى بأشد من عجبه كيف نجح في الثانية! وهذا هو مظهر إرادة الله، فإن صادف من بعض النفوس الضعيفة حسدا أو غيظا أو سخطا أو منافسة أو نحو ذلك مما يكون مظهرا لضعف الإيمان في النفس، تحول المعنى إلى لفظ يحمل كل هذه العواطف الوحشية، فليس الكلمة التي تسلب الإنسان قوة نفسه وتكاد في إبهامها تسلب الأقدار قوة الحكمة أيضا وهي كلمة الحظ، ألا ترى أن أحدا من الناس لا يتعلل بهذه الكلمة ولا يحتج بها ولا يسكن إليها إلا من غيظ أو سخط أو حسد أو عجز أو ما هو بسبيل من هذه المعاني؟ قال "الشيخ علي": فلم يبق من معنى الحظ إلا أن يقال: ولم وفق فلان، ولم خذل الآخر وما هو بدونه، وربما كان أحق منه، وربما كانت المنفعة به أكثر والنعمة عليه أظهر؟ ولم كان ذلك سعيدا، وبأي شيء صار سعيدا؟ وهذا شقيا، وبأي شيء عاد شقيا؟ إلى نسق طويل من هذه المسائل التي لا تجيب عليها السماء ولا تكف عنها الأرض أبداً ...
ولكن، يا هذا لم تخفي أنت وحشيتك المهذبة وتكتم الغيظ والسخط والحسد، ثم تحتال على أن تخرج هذه المعاني الخشنة في ألفاظ لينة، وأن تعترض على القدر في أسلوب من التسليم والرضا، وتطرح بينك وبين الله لفظة إن لم يكن معناها مخاصمة القضاء فمحاسبته، وإلا فمعتبة عليه! وهل تعلم أنت ما هي شعوب الحوادث وفنونها، وما الذي سيفعله المجدود حين تقبل عليه الدنيا، والمحروم حين تدبر عليه النعمة، وماذا يكون مما يترتب على الحرمان أو ينشأ عن الحظ، وهل تدري لما أساء بعض الأغنياء حمل الغنى دون البعض، ولم أحسن بعض الفقراء حمل الفاقة دون البعض، ولم ابتليت طائفة بالتمني وابتليت غيرها بالضجر مما تتمناه الأولى، وحبب إلى تلك ما بغض إلى هذه، ولم انتزعت النعمة بعد أن استمكن حبلها، وأقبلت الأخرى بعد أن استيأس أهلها؟ ...
أليس من كل هذا يتهيأ البقاء للحياة الإنسانية في نظام لا يخف على نوع الإنسان فيهمله ويفسد به، ولا يجور عليه فيستأصله فيذهب به؟ وهل الناس إلا خطوط في لوح الغيب يستقيم منها ويعوج ما يعوج لأن كل ذلك مما لا بد منه في جملة الوضع وأحكامه، فإذا أردت أن تسأل لماذا استقام هذا ولم أعوج ذاك، ثم ما قصر وطال، ثم ما دق وجل، ثم ما علا وسفل، ثم ما انفرد واختلط فسل: لم خلقت الدنيا ولم خلق الناس، وسل الخالق ولا تسل "الشيخ علي".
كل ذلك يا بني حكمة وكل ذلك انتخاب، وقد ظفر العلماء في حركات النظام بما سموه الانتخاب الطبيعي، وعرفوا أن ذلك سر من أسرار التقدم والارتقاء، فاعلم أن ما نحن فيه من معنى الحظ إنما هو انتخاب إلهي، وذلك سر من أسرار الحياة والبقاء، وما من حركة لي ولك ولكل إنسان إلا هي تمس قطعة من تاريخ الحياة وطائفة من الأحياء، فليس من حي هو لنفسه وحدها، وليس من حقيقة هي لنفس واحدة، وإن عرف الإنسان بعض الحقيقة من نفسه فأكثر الحقيقة لا يعرفه إلا من سواه، ومن أجل ذلك يقضي نظام الحياة بما نسميه الحظ وإن كنا لا نفهمه كما يقضي به نظام الحياة، وإنما قوة الحركة وضعفها على حسب ما يراد بها في الدفع والجذب، فكن واثقا بالله مؤمنا بالقدر خيره وشره، فالثقة وحدها حظ عظيم والله تعالى يصيب الناس بنياتهم، غذ هي حقائقهم الصريحة، وإذ هو وحده المطلع عليها، فهو يوفق السعداء للنية الحسنة ثم يسعدهم بهذه النية على الوجه الذي يعلم أنه من سعادتهم، فإن لم يكن لهم الحظ الذي يريدونه فلهم الحظ الذي يلائمهم، وربما كان زمام العافية بيد البلاء وكانت النعمة في عاقبة المصيبة، وكان الإنسان عابسا من طلعة القدر والقدر يضحك له!.
وإذا لم يكن للأقدار نواميس أرضية تجري عليها وتقع بحسبها فإن أقرب ما يصح أن يعد من نواميسها فينا أرى هو نيات الناس.