ولتعلمن كذلك أن الغاية من هذه الحياة كمال الحي في جسمه ونفسه، فإن تم بالفقر فذلك غناه، وإن نقص بالغنى فذلك فقره، ولا شأن لاصطلاح الناس فيما هو خاص بين المرء وذات نفسه، وهذا معنى بسطته لك آنفا ولكني متلقيك بمثاله من رجل وامرأة، ولا عليك أن لا تسمع حديثا عن الباشا و"هانمه" أو أبي زيد وأم الخير، ولا على أن أجيئك بالمثالين على باخرة أجعل ذلك من صرف الكلام وتزيينه وما بلادنا من هذه المخازي بمنتزح، ولكني أردت إمتاعك من لذة الحديث على مدار إمتاعك من حكمة الحادثة، والكلام عن رذائل الحياة في بلادنا هذه كلام غي يتجافى عن الرقة في أكثر مناحيه، وإذا وجهته إلى أكثر قومك فإنما أنت تشتمهم به أ, هم يتلقونه من هذه الجهة، ولا مناص أن تقع بك ظنة السباب وإن كنت واعظا، ويقال عاق وإن كنت براً، وغاش وإن كنت من الناصحين.
أما فلان هذا فهرم بخيل لو مسخ حجر لتحطمت من غيظها الأحجار، ولو كان على بخله حديدا لما لأن الحديد في النار، ولو صوره الله طينا أجوف لما طن في يد أحد على نقر، ولو خلقه مرة أخرى من تراب لما جمع هذا التراب إلا من ثياب أهل الفقر.
وهو نبي أمة البخل، أما معجزته فهي قدرته على أن يستنبط غير المألوف من المألوف، ويستغل الصفر فيخرج منه ألفا إلى ألوف وإنه على ذلك لآية، فما رآه المؤمنون إلا قالوا: اللهم غفراً، ولا رآه الجاحدون إلا زادوا عتواً وكفراً.
وكم تمنى وهو يتهالك حرصا أن يكون كإبليس في أنه لا يموت غلا متى هرم الدهر، ولا يذهب من الأرض إلا حين لا يبقى في تاريخ الأرض ولا شهر، وإذا خوفته الموت والحساب قال: ويلك دع عنك، وإذا علم أنه سيعطى كتاب أعماله في الآخرة قال: يا ليت صحفه من "ورق البنك"! على أن درهمه في أيدي الناس هم واسمه في أفواههم سم، وكم لأمواله من قتيل فمن استلف، فقد ذهب به التلف، ومن اقترض، لقد انقرض! وكم من بائس قشعت غمامته، ثم غالت هامته، وقضت دينه، ثم أبكت عينه، فو الذي نفسي بيده إن دراهم هذا الخبيث لتعد من اللصوص، وإنها للئيمة على العموم أما هو فلئيم على الخصوص، يرسل الدرهم في يد المحتاج فيذهب فيه ديناره، ويقدح فكره الملتهب فلا تقع إلا في بيوت الفقراء ناره، ولو كان مخلوقاً يوم عرض الله الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، لحمل وحده الأمانة، وإذا كان مبلغ القول في وصف كل غني كريم أنه "صراف" في خزانة الله فجهد القول في هذا اللئيم أنه لص الخزانة! وهو على غناه كأنه في الناس بؤس المفلس في القمار. وكأنه لحقارته ذيل الحمار، إن طلع عليهم فطالع زحل، وإن غاب عنهم فوباء رحل، ومتى ذكروه، فكأنهم نكروه، وإذا قضي عليهم أن يسمونه فكأنما شتموه. وإذا وصفوه قالوا وجع الأظافر، وذنب بلا استغفار، اللهم قنا عذاب النار! أما وجهه فلو أنزل الله مرآة من السماء فنظر فيها لصدئت من قبح خياله، كصدأ ذلك المخزون من ماله، وأما روعته فلو خرج على الحسان لابتلاهن بما يفجأ الظباء من رؤية الفهد، وامتلكهن بما يعتري المرضع إذا كشفت عن طفلها فأبصرت الثعبان في المهد، وأما جهامته فلو نظر إليه البدر لغرب، ولو طلع عليه الفجر لهرب، أما روحه الخفيفة.. فلو بعثت خلقاً آخر لما كانت إلا بقة صيف، في رقبة ضيف، أو بعوضة تلسع العاشق المهجور فتوقظه وقد ظفر بالطيف،، وحياته كالبلاء المحتوم، وغناه كالكنز المختوم، وأما هو فكالقبر الكتوم.
وأحسب لو رسمه أمهر المصورين بأبدع خططه وألوانه، وأنطقه من عينه وعنوانه، وجعله آية فنه وافتنانه، وترك من يراه لا يحسب إلا أن المصور قد سرقه، أو أن الله تعالى مسخه على ورقة، لبقي مع ذلك في رسمه مغمز لا تصلحه إلا يد الشيطان الرجيم! ولا تلونه إلا شعلة من نار الجحيم ... ومن للمصور بشرارتين من الصاعقة ينزلهما في الرسم لتظهر بهما عيناه، ومن له برقبتي البخل والرذيلة يطبق عليهما يسراه ويمناه، ومن له بلونين من غضب الله ونقمته يظهر وهما في الصورة معنى فقره وغناه؟ ولست أطيل في القول، فما أنا ببالغ من القول بعض صفاته وهيهات أن يصفه على الحقيقة إلا من يعلم لغة الملائكة فينقل إلى لغة الناس كتاب سيئاته ...